هم أناس يلبسون رداء القدسية دون غيرهم، توَّجوا أنفسهم رقباء على الآخرين، أوكلوا لحضرتهم محاكمة الناس والنظر في أخطائهم، زلة لسان هنا، عثرة قدم هناك، يرصدونها ويرقبون حدوثها، وما إن تقع، حتى يتقمصوا الدور الذي لم ولن يجيدوه قط، يتقمصون دور شعب الله المختار، فهم المنزهون عن الخطأ، هم بشر ليسوا ككل البشر، يمتلكون شفرة سرية تمكنهم من الوصول إلى الخالق دون غيرهم، فهم إذن في بعثة مقدسة لمحاسبة المذنبين، أليسوا خلفاء الله في الأرض؟ ثم إن هؤلاء الذين عكسهم يذنبون يعكرون صفو وجودهم الهادئ التقي، فإن لم تنضم إليهم، إن لم تلبس نفس ألوانهم وقصّات أثوابهم، إن لم تتكلم مثلهم، إن لم تستخدم عباراتهم، إن لم تستعمل أدعيتهم المحددة والمحفوظة عن ظهر قلب، فلكل حاجة دعاء يناسبها يجب ترديده كما هو، بلغة عربية فصيحة، فلن يبالي الله بك إن دعوت بغيرها، إن لم تفعل كل هذا فلن تكون منهم، سينبذونك خارج هالة وجودهم الفاضلة، سيرمقونك بنظراتهم المتعالية.
ستحس بالإقصاء، وقد تدعي اللامبالاة، لكنك لن تحيد عن سلك إحدى الطرق الثلاث:
1- ستقنع نفسك مرغماً بصواب دعواهم، لن تفكر كثيراً قبل أن تنضم إليهم، ستختار الطريق الذي تظنه الآمِن لكنه حقيقة ليس إلا طريق الجبن والخوف، ستصبح نسخة مكررة منهم، ستكف عن التساؤل وتخرس صوت عقلك للأبد، ستصدق كل ما يملونه عليك، وعندما يظهر التناقض ليطفو على السطح من جديد، ستُعمي عينيك وتخرس لسانك، وشيئاً فشيئاً… ستنقل إليك العدوى، وستظن أنك أفضل من غيرك، وأن كل مخالف لك مخطئ وضال، كأنك تعلم ما في قلوبهم، كأنك خلقتهم لتحاسبهم.
2- عندما يجدونك وقد اختلفت عنهم ورفضت الانضمام إليهم، سيفرون منك فرار السليم من المجذوم، فرار الشريف من وصمة العار، عندها ستحس بصغر شأنك، ستحس بالمرارة تغزو قلبك وتنتقل صعوداً لتترك طعمها اللاذع في حلقك، ثم ستتساءل: كيف للدين أن يكون بهذا القبح؟ كيف يعقل أن يكون الحقد مفتاح الجنة الموعودة؟ سيمزقك الصراع بين إله أحببته بفطرتك الطفولية ولا تزال، وبين أناس يدعون أنهم يعبدون إله الرحمة وقد نزعت الرحمة من قلوبهم، متعب أنت من أحكامهم، منهك من تناقض صارخ لا تجد له تفسيراً، من أسئلتك المعلقة التي يقابلونها بالقمع وأحياناً بالتكفير، لكنك لم ترد إلا الحقيقة، لم ترد إلا للغشاوة أن تزول، لم ترد أكثر من أن تعمل عقلك، لكن الأبواب الموصدة أمامك ستثنيك عن استكمال البحث، ستتوقف هناك ويا ليتك لم تفعل، ستنسلخ عن هذا الدين وتنكر كل شيء، ستقف في بداية الطريق وتستبدل ظلاماً بظلام أحلك" لأنك لا تريد أن:
3- تكون مسلماً بالوراثة فقط، ولأنك تريد الحقيقة؛ لأنك تجد في ما درسوه لك منذ فقهت الكلمات تناقضات تقض مضجعك، وتأويلات لا يقبلها عقل سليم، ولأنك ترى في الدين روحاً أسمى من فتاواهم وتعصبهم؛ لأنك تعلم أن هناك خللاً ما، وبوناً هائلاً بين الرسالة وفهمهم لها، لكل ذلك ستترك القوالب الجاهزة، وستفكر… ستعمل لفائف دماغك وتنطلق في رحلة البحث الخاصة بك، حاملاً معك صدق السعي؛ لأنك تريد الله فقط، تبحث عن النور صدقاً وتريد الحق فعلاً…
ستضم رحلتك ودون شك، العديد من علامات الاستفهام، لكن خالقك ألهمك الفهم، وأودع بين ثنايا روحك خارطة الطريق، اجعله وحده مبتغاك، ولا تجعل بينك وبينه وساطة، لا عالماً ولا شيخاً ولا فقيهاً، لا أحد، لا أحد بينك وبين الله، لا تدع أحداً يريك كيف تكلمه، كلمه بصدقٍ بأية لغةٍ تشاء، واسأله بصدقٍ أن يدلك عليه، لن يترك الله قلباً أراده بصدق، سيدله على الأجوبة الشافية التي تسقط معها كل التناقضات، لن يحدث كل ذلك في رمشة عين، لن تستيقظ يوماً ما وقد حلت في عقلك كل التساؤلات، لن تسلم إليك الأجوبة عن طبق من ذهب، دعني أؤكد لك أن لا شيء من هذا سيحدث، لكن ما سيحدث فعلاً هو أن الغمامة ستبدأ شيئاً فشيئاً في الزوال، شيئاً فشيئاً ستبدو في ذهنك الصورة بوضوح أكبر، كفسيفساء كبيرة… تتشكل بإضافة القطعة تلو الأخرى، كلوحة فنية تحتاج صبراً ومثابرة لتكتمل.
وإن سألوك لماذا كل هذا؟… كل هذا لأقول: أنا مسلم؛ لأنني شككت فبحثت فأيقنت، وليس لأن أبوي مسلمان فقط، كل هذا لأن الله لم يوكل أحداً لينوب عنه أو ليتحدث باسمه، كل هذا؛ لأن الوصول إليه لا يعقل أن يكون بالتعصب والاستعلاء، كل هذا؛ لأن أناساً كهؤلاء يؤذون الدين بدل أن يخدموه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.