هل لديك عقدة نقص؟ هل ينتابك شعور بالنقص تجاه بعض المحيطين؟
أغلب الظن أنك ستسارع في نفي هذه التهمة، وفي أحسن الأحوال قد تُقر بمعاناتك معها مستحضراً مشاعر العجز والضعف والألم، لكنني اليوم أرمي إلى أن أعرفك على بعدٍ آخر من عقدة النقص!
وقع الكثير من اللبس في التناول العربي لمصطلح العقدة النفسية، مما يضطرنا لتعريف مفهوم العقدة أو المركب النفسي. وهي "نمط محوري من المشاعر والذكريات والتصورات والرغبات المنتظمة في اللاوعي الشخصي حول موضوعٍ ما كالسلطة أو الحالة." [1] ويعتبر "يونغ" هو أول من أشار لمفهوم العقدة النفسية، بينما يُعد "أدلر" هو أول من أشار إلى مُركب/ عقدة النقص ودوره في النمو النفسي.
يبدأ مُركَب النقص في الظهور في السنوات الأولى من العمر (2-3 سنوات) حين يبدأ الطفل في محاولات الاستقلال ويكتشف أن هناك الكثير مما يستطيعه البالغون ويعجز هو عنه [2]، هنا تبدأ جذور مُركب النقص في الظهور، ولو كان الغرض الرئيس من المقالة تربوياً لأفضت في الحديث عن كيفية التعامل مع تلك الجذور، وإنما يكفي الإشارة إلى ضرورة مراعاة ذلك ووضع تحديات متدرجة أمام الطفل يمكنه اجتيازها ولنقل إطعام نفسه، وترتيب ألعابه.
ويكمن الاختبار الصعب مع مركب النقص في اختيار أن تكون حقيقياً ومُعرَضاً، فإننا ننمو في مواجهة التحديات، وكما أن نمونا الجسدي يتأخر بطول الاحتجاز في المحاضن، فإن نمونا النفسي كذلك يتراجع أمام محاولاتنا استجداء الأمان وتصدير صورة زائفة لا تمثلنا على الحقيقة. هنا يصبح شعور النقص عجزاً وعبئاً على صاحبه.
إننا نحتاج أن نختبر الضعف والنقص، وأن نضع أنفسنا في نوعٍ من المخاطرة المحسوبة، وتخيل مبتدئاً في صالة كمال الأجسام حين يرى أنه يقل كثيراً في قدراته عن زملاء الصالة، ويصبح مخيراً بين التظاهر بالغنى الزائف عن المنافسة، أو قبول النقص والعمل على تعويضه وإصلاحه بالتدريب والصبر واجتياز التحديات المتدرجة الواحدة تلو الأخرى، ويخبرنا التاريخ عن نماذج مشرقة كان شعورهم بالنقص دافعاً لهم لتحقيق البطولات مثل كلوديوس الروماني الذي برع في الفنون الإنشائية والعسكرية حتى إنه وسع الإمبراطورية وغزا بريطانيا واحتلها، ورأس العديد من المحاكم العلنية وأصدر العديد من التشريعات، على الرغم من معاناته من العرج وضعف السمع وتشوهات خِلْقية أخرى مما جعل العائلة تحرمه من الملك وتولي ابن أخيه كاليغولا الذي اعتاد السخرية منه علناً، وكان عجزه سبباً في نجاته من الاغتيال العائلي للأسرة الإمبراطورية؛ إذ لم يشكل تهديداً، وبذلك أصبح الوريث الوحيد للعرش لتتاح له الفرصة لإثبات قدراته. [3]
ما وصفته في الحالات السابقة هي ما يسمى بمحاولات التعويض، فالنوع الأول من التعويض عن النقص وهو التعويض الإيجابي يكون بوضع تحديات ومحاولة اجتيازها لرفع الكفاءة والتغلب على النقص، وقد يحدث التعويض بالإنابة كمن يبرع في الفنون إثر إصابته بعجز حركي، أما النوع الثاني فهو التعويض السلبي ويكون بالتظاهر بالكفاية وعدم الاحتياج. ويتخذ التعويض السلبي صورتين بحسب طبيعة الفرد فيميل الانطوائيون إلى التراجع والتردد وتجنب مواجهة التحديات ولعل ذلك السبب في ظهور بعض سمات الاتضاع الطفولي لدى الكبار، بينما يلجأ الانبساطيون إلى مداراة النقص الذاتي عبر انتقاص الآخرين فيما يُعرف بالإسقاط. [4]
تكمن الخطورة في أن نُبتلع في محاولات التعويض، فالمبالغة في التعويض الإيجابي سينتج عنها مشاعر العجز واليأس وضعف الحيلة التي قد تنتهي إلى التوقف عنه والتحول إلى التظاهر، وأما النوع الثاني فينتج عنه تعمق مشاعر النقص وتغلغلها وبينما يظن صاحبها أنه قد أحبك مداراتها فإذا بالجميع يلحظها ويراها.
علينا إذاً القبول بقدرٍ من النقص لا يمكننا التعويض عنه، بلا يأس ولا تظاهر، وهنا فقط لا تصبح محاولة التعويض عبئاً يستنزف طاقاتنا وينغص علينا الاستمتاع بلحظات العمر، وهنا فقط يمكننا أن نطلب المساعدة من الآخرين بأريحية؛ لأننا نعلم أننا بمفردنا لا نستطيع، وهنا فقط يمكننا أن نتعرف على إلهٍ كُلِي القدرة والاستطاعة فنعرف كمال الله في مركب نقصنا.
نحن إذاً مدينون لمشاعر النقص بالكثير؛ فالتآلف والتكافل الاجتماعي ينتج عن قبول مشاعر النقص الفردي والتوجه نحو التكامل الجمعي، ونحن مدينون أيضاً لمشاعر النقص بنجاحاتنا وإنجازاتنا التي دون الشعور بالحاجة إلى إثباتها لما تحملنا مشقة تحقيقها، ونحن مدينون لمشاعر النقص بقدرتنا على رؤية كمال الله في أجلى صورها.
________
1- Complex، ويكيبديا الإنجليزية عن Schoultz and Schoultz 2009 وللتفصيل راجع: العقدة النفسية، روجيه موكيالي، ترجمة موريس شربل، ص14، 19، وما بعدها.
2- الفريد أدلر، الطبيعة البشرية، ترجمة عادل بشري، ف6، ص96.
3- Claudius، ويكيبديا الإنجليزية.
4- سوزي لطفي، مقدمة في المشورة، بحث غير منشور.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.