من أكبر التحديات على الإطلاق التي تواجه المهاجر العربي المسلم في الغرب، الحفاظ على الذرية من الانصهار الثقافي الغربي، الذي دائماً ما يؤدي إلى خسارة تلك الذرية التي هاجروا من أجلها، ومن صور تلك الخسارة التي يخشاها الأهل هو إسلام مشوَّه أو خروج عنه لمُعتقد آخر أو إلى الإلحاد، الأمر الذي بات يُشكل هاجساً كبيراً لعرب المهجر، وأصبح أولى أولوياتهم إيجاد طرق وحلول عملية تحفظ عليهم نُطفهم من الضياع، وقد يضطرون -إن أمكنهم ذلك- إلى ترك كندا التي يُحبُّون، والعودة إلى الشرق لتحقيق ذلك الأمر.
الموضوع مهم جداً ومُعقَّد، ولا يمكن تحقيقه من دون منهجية واضحة قابلة للتطبيق، فالمبادئ التي تؤمن بها اليوم، وقدراتك التي لديك، هي ما ستحدد مستقبل أولادك في كندا، ومن خبرتي في الغرب عموماً، وكندا خصوصاً، أرى الأمور التالية غاية في الأهمية؛ للحفاظ على الذرية في المهجر:
1) الرعاية وحدها لن تكفي
دائماً ما كان يدور بيني وبين زوجتي نقاش حول مسؤولياتها كأم تجاه بناتنا، وفي كل مرة كنت أحاول التأكيد على أنَّ مسؤولياتها المنوطة بها أكبر بكثير من الرعاية التي تقدمها لهن، فرعاية الطفل من مأكل ومشرب وملبس وفروض مدسية… إلخ، كلها أمور مهمة، ويمكن لأي خادمة القيام بتلك الرعاية نيابة عنها، ولكن التربية أهم!! فالتربية هي أن تبني شخصية أطفالك ومبادئهم التي سيحيون من أجلها مهما اختلفت عليهم الأماكن والأزمان، هذه المهمة لا يمكن للخادمة القيام بها، وهذه هي المدرسة التي وصفها شوقي في شعره: (الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق)، وفي كندا يكتشف الأهل هذا الفرق الكبير بين الرعاية والتربية، ولكن بعد دفع الثمن مع الأسف الشديد.
2) أطفالكم ليسوا صغاراً
حدَّثني يوماً أخ عربي بعد صلاة الجمعة عن معاناته مع ابنه الأكبر الذي لم يعد يُسيطر على تصرفاته الحمقاء وإقدامه الأهوج على الحياة الكندية المنفتحة على كل شيء من دون تفكير، إضافة إلى عزوفه عن ثقافته العربية والإسلامية وسوء أخلاقه مع والديه، في الوقت الذي نجا فيه ابنه الأصغر من ذلك كله، وعندما أسهب في الكلام وأخذ يتلو عليَّ الموقف تلو الآخر، استطعت أن أضع يدي على السبب الرئيسي الذي أدَّى إلى كل تلك المعاناة، فقلت له: (هل أدركت ما هو الخطأ الذي قمت به أنت وزوجتك في حق ابنك الأكبر؟)، قال لي: (لا أدري!)، قلت له: (تلك اللحظات التي كلما كان يجب عليك أن تُحمِّله المسؤولية، كنت تقول:. دعه يستمتع بالحياة، حرام فهو ما زال صغيراً، الأمر الذي استدركته مع ابنك الأصغر، فكان أفضل من أخيه بكثير)، فلا ينبغي على الأهل إغراق الطفل بحنان مؤذٍ قد يؤدي إلى خسارة ذلك الطفل إلى الأبد.
3) قد يحدث ذلك لطفلك
أكبر مصيبة يقترفها الأهل في المهجر هي اعتقادهم أنَّ ما يسمعونه في كل يوم من المصائب لا يمكن أن تحدث مع أطفالهم، فالأهل الذين يعتقدون ويرددون دائماً: (أنا أعرف طفلي جيداً، ذلك لا يمكن أن يحدث معه!)، تجدهم الأعلى في نسبة المصائب والفشل الأسري، يجب عليك أن تتوقع الأسوأ، وكل شيء حدث لغيرك يمكن أن يحدث لك ولأسرتك، وبدلاً من الاستماتة في النفي، افهم الأسباب التي أدَّت إلى تلك المصائب واعمل على اجتنابها.
4) الفهم أساس النجاح
لن يمكنك في كندا أن تُجبر طفلك على فعل ما لا يفهمه، فأنت تنافس نظاماً كاملاً مبنياً على الفهم، ولن يمكنك تحدي ذلك النظام طويلاً وستخسر في نهاية المطاف. أذكر يوماً أني كنت أتناول غداء عمل مع بعض الزملاء الكنديين، تحدثنا خلاله في الاختلافات الثقافية الكثيرة في كندا، ومن بين الأسئلة التي وجهت لي: (هل تستطيع الأنثى أن تلبس الحجاب على كم قصير بحيث تكون ذراعاها مكشوفتين؟)، فقلت: (لا، ذلك ليس بحجاب)، فأكدت لي السائلة أنها قد شاهدت ذلك المنظر في أكثر من مناسبة، وهي نفسها كانت تستغربه، فردت عليها زميلة كندية أخرى وقالت لها كلمة رائعة: (تلك الفتاة التي تلبس الحجاب بهذا الشكل، هي في حقيقة الأمر لم تفهم المغزى من الحجاب، فقط تقوم بأمور لا تفهمها!).
٥) جذورهم ركيزة لهم
هذا الأمر لا يمكن أن يحدث من دون اتصال وثيق مع أبناء الجالية العربية والإسلامية، وإجازات سنوية في البلدان العربية، وبما أنَّ الثانية مُكلفة، فالجالية لا مفر منها في كندا، وكل من عزل نفسه عن الجالية دفع ثمناً باهظاً، فأولادكم يحتاجون إلى رفقة وعلاقات مجتمعية، ومن دون تلك الجالية لن يتسنى للأهل سد تلك الفجوة في حياة أطفالهم، فمن الأخطاء الكبرى التي يقع فيها الأهل هو الاعتقاد بأنَّ العزلة عن الجالية ستوفر لهم ولأولادهم حياة هانئة وراقية، وعندما أقول تواصل مع الجالية، هذا لا يعني أن تكون لك مئات العلاقات الاجتماعية، ولكن يمكنك بناء علاقات وثيقة مع من يشبهونك في فكرك وثقافتك، وقد تكون تلك العلاقات لا تتعدى الخمس عائلات عربية.
6) المدرسة الإسلامية طوق نجاة
البشر يتأثرون بشكر كبير بالمجتمعات التي يعيشون فيها، فمهما فعلت ستبقى ثقافة المجتمع الذي تحيا فيه أقوى من ثقافتك التي تحاول الحفاظ عليها إن تعارضت معه، فعندما يقضي طفلك يومياً 8 ساعات في المدرسة، ستشكل تلك المدرسة جزءاً كبيراً من ثقافته وشخصيته، والمدرسة الإسلامية ستخفف نسبة كبيرة من الأضرار الثقافية في حياة طفلك تصل إلى نسبة لا تقل عن 70 في المائة، وأهم تلك الإنجازات أنها ستحميهم من الازدواجية في الشخصية التي تدمر كل جزئية في حياتهم، لكن المشكلة اليوم أنَّ كل شيء منوط بالإسلام أصبح مُكلفاً جداً.
7) العربية أصل الثقافة
من خلال مشاهداتي في الغرب، لاحظت أنَّ العوائل العربية التي علمت أطفالها اللغة العربية قراءةً وكتابة، نجحوا نجاحاً باهراً في ربطهم بجذورهم، وهذا أمر لا يمكن الاستخفاف به على الإطلاق، ويكفي أنَّ مَن يتقن العربية سيسهل عليه البحث عن الحق في المراجع الموثوقة بدلاً من التيه الذي يتعرض له في الكتب المترجمة والتي لا تخلو من أخطاء فكرية فادحة.
8) كونوا قدوة لهم
لن يكون بمقدور الأهل في كندا تفويض المجتمع أن يكون قدوة لأطفالهم، قد يكون هناك بعض الأمور التي يمكن الاقتداء بها من خارج دائرة الثقافة العربية كالأعمال التطوعية والأبحاث العلمية وغيرها، ولكن هناك اقتداء خطير قد يسلب الطفل من أهله وهم لا يدرون.
9) اشغلوهم بما هو مفيد
الفراغ يشكل تهديداً كبيراً للأطفال في كندا، فإذا لم تشغلوهم بما يفيدهم، هناك الكثير من القضايا -غير النافعة- سيشتغلون بها رغماً عن أنوفكم، فالمجتمع أقوى منكم وأفضل طريقة للإحاطة بهم هو إشغالهم بأمور نافعة ومرهقة يحبونها كي يبقوا بينكم.
10) صاحبوهم واسمعوا لهم
يحتاج الأطفال إلى الشعور بالاهتمام بشكل كبير، والأهل الذين فشلوا في حوار أطفالهم، أجبروهم على النفور بعيداً إلى مَن يسمع لهم خارج نطاق الأسرة، الأمر الذي أدَّى إلى الانفصال التدريجي لذلك الطفل عن بيته وأسرته. أذكر أني شاهدت ذات يوم أمام مدرسة في الحيِّ الذي أسكن فيه، فتاة مسلمة محجبة مُلقاة على الأرض في أحضان شاب… يتبادلون القبلات الحميمية في وضح النهار وأمام المارة من دون أي حياء، وكنت وقتها أقود مركبتي ومن شدة هول المنظر كدت أصطدم بالمركبة التي أمامي. الشاهد إذا نجحت في حوار أطفالك وفهم التحديات التي تعصف بهم، حاول أن تساعدهم على تخطي تلك التحديات بحكمة، وقدم لهم قيمة حقيقية تؤثر إيجاباً في حياتهم، ذلك الأمر غاية في الأهمية وسيربط أطفالك بالأسرة ويقوي انتماءهم لها.
الموضوع كبير ويحتاج إلى الكثير من النقاش والتفصيل، وسيكون ذلك -بإذن الله- خلال الحوار المباشر اليوم السبت 21 مايو/أيار، عبر صفحتي على الفيسبوك في الأوقات التالية: 12:00 ظهراً (تورونتو) | 5:00 مساء (الرباط) | 7:00 مساء (مكة)
– رابط الصفحة: https://www.facebook.com/HusseinYounesWriter
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.