عندما يتذكر البحر!

أضع بين يدي الآن بضع حبات من التوت الأحمر المقطوف طازجاً عن أمه التي تظلّل بيتي الخلفي.. آكلها ويأكلني حنيني للزمن الذي لا يمكن استحضاره إلا بالرائحة.. كم نتمنى أن نفعل أشياء كثيرة ولا نستطيع إما لعجزنا في ذلك التوقيت

عربي بوست
تم النشر: 2016/05/21 الساعة 04:42 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/05/21 الساعة 04:42 بتوقيت غرينتش

لم يتذوق أبي من حبات التوت المتلألئة على الشجرة الخلفية لمنزلي.. وهو الذي يعشق هذه الفاكهة وينتظرها من موسم لآخر.. لقد سمح له حظه الوافر في ذلك العام أو لنقل أنه ربح معركة الموت في أكل التوت.. استطاع أن يقطف الموسم قبل أن يحين قطاف أبي الجميل.. كان يأتي من عيادته محملا بـ"سطلين" من التوت يكفيان بيتنا 3 أيام كحد أقصى.. وكان يبدأ دائماً بالتوت الأبيض.. لست أدري إلى الآن ما إذا كانت هذه مصادفة أن تكون روحه شفافة ونقية وحلوة المذاق كحبات التوت الأبيض فائقة النضج.. لا شيء يأتي من لا شيء.. ولكل حركة في هذا الكون الصغير حكمتها.

أضع بين يدي الآن بضع حبات من التوت الأحمر المقطوف طازجاً عن أمه التي تظلّل بيتي الخلفي.. آكلها ويأكلني حنيني للزمن الذي لا يمكن استحضاره إلا بالرائحة.. كم نتمنى أن نفعل أشياء كثيرة ولا نستطيع إما لعجزنا في ذلك التوقيت، وأقول: "في ذلك التوقيت تحديداً"؛ لإيماني الشديد بأنه لا يوجد عجز مطلق إنما إنسان غير ناضج بعد لخوض المعركة وربحها.. وإما لأن الزمن يركض سريعاً في دمنا، بحيث لم نعد نستطيع اللحاق به برغم وصول لهاثنا إلى أبعد شريان.

اشتقت لجمعة طيبة على شاطئ بحر مدينتي الفاضلة صور، بحيث أنظر الى الموج الحلو وأخاطبه بلغة العيون الصامتة ويفهم أكثر مما ينبغي.. فيحملني إلى الأيام الجميلة التي كنت أنمو فيها بين الرمل كعشبة طرية نضرة يلفحها الملح، أو كصدفة مترامية الأحلام يغمرها الماء ومع كل غمرة تطفو قليلاً عن قاعدتها معلنة نشوة الملح اللذيذ.. يا بحر.. تعرف أنك تمر في عروقي.. وأنا التي أبحث عنك في كل شيء حولي.. لا شيء يجعلني أبتسم أكثر من صفعة موجة ترحب بي أو صفاء صفحة شفافة من كتابك تلامس قدميّ الحزينتين.. لي معك يا بحر ذكريات كثيرة.. فيك رائحة أحباب صاروا صوراً في أعماقك.. هناك حيث رسمنا في قلبك قلوباً كثيرة.. فيك وجه أبي وضحكة أخي وصوت بعيد كان دوماً يخاطبني من أعماقك وإلى الآن أسمع صداه يتردد في جوفي.

عمت مساءً وصباحاً وفي كل الأوقات.. سأحمل إليك غداً هدية ثمينة على قلبي.. سأضع في يديّ بضع حبات من التوت وأطلق يدي لهواء يلفحني قادماً من موجك.. فيطير شعري مستسلماً.. وسأحاول الاحتفاظ بحبات التوت في يدي.. دعها يا بحر تصمد في راحة يدي.. دعها تذوق الملح قليلاً لأنني أريد أن آكلها هكذا.. توت بطعم الذاكرة.. وربما ذاكرة برائحة التوت.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد