كانت مهمة حجز رحلة إلى رواندا مهمةً صعبةً، خاصةً وأني لم أكن أعلم مدة إقامتي أو الكيفية التي سأذهب بها إلى أوغندا؛ لكني كنت عقدت العزم. كنت أتمنى استكمال رحلتي بالحافلة لكن الأمر كان معقداً أكثر مما تخيلت؛ لذا حجزت تذكرة طيران. رتَّبت أمر إقامتي في معرضٍ فنيٍ؛ فكانت الجدران مغطاة بقصص الفنانين ومنظر لم أستطع منع نفسي من التحديق إليه، كما أنه يمكن أن يكون طريقةً للتعرف إلى أناس جدد.
وصلت في الثانية عشر مساءً إلى مطار "كيغالي" لأجد في انتظاري سائقاً أرسله مالك الشقة. لم أدرِ لمَ فعل ذلك، لكني عددت الأمر إظهاراً لكرم الضيافة. كانوا في انتظاري ليفتحوا البوابات ويأخذوني في جولةٍ سريعةٍ في المكان.
أول ما لاحظت حين وصلت إلى المطار هو مدى التقدم الذي وصلت إليه رواندا بالمقارنة بكافة الدول التي ذهبت إليها. كانت الطرق مُمهَّدة جيداً وحديثة للغاية؛ والبنايات جميلة. كانت رواندا نظيفة لكن يسودها الصمت. والأهم من ذلك كله أن أضواء الشوارع ولافتات الطرق كانت تعمل بكفاءة.
وبينما كنت أخرج من سيارة الأجرة وأحمل حقيبة ظهري، حاولت ألا أسقط على الأرض؛ فلم أكن أرى شيئاً. لوَّحت للسائق مودعةً ورحَّبت بصديقي الجديدين: شاب رواندي اسمه JMV وامرأة كندية اسمها "أيفي". لم أكن أعرف ماذا أقول لذا حييتهم فحسب. وبمجرَّد أن أروني غرفتي وطريقة إغلاق الأبواب رميت حقيبتي بعيداً واستغرقت في النوم.
حمدت الله على أني لم أعد مضطرة إلى الاستيقاظ في الخامسة صباحاً، لكن هذا لم يُحدث فرقاً كبيراً؛ فقد استيقظت جائعة للطعام، وللمغامرة أيضاً. تجهَّزت للخروج وذهبت لأرى إن كان أي أحد في المعرض مستيقظاً لأتجاذب معه أطراف الحديث. التقيت "أيفي" وطلبت نصيحتها.
سافر والدي من قبل إلى رواندا وأخبرني أنها ستجذبني بطريقةٍ لا أتخيَّلها. في أول يومٍ كان الفضول يتملَّكني فذهبت إلى النصب التذكاري الذي حذَّرني والدي كثيراً من زيارته قائلاً إنه مثير للمشاعر ومؤلم في الوقت نفسه، لكني كنت قد قرأت عنه كثيراً وعرفت عواقب الزيارة.
والآن، وبما أني كنت وحدي ومتحمسة لمغامرة الذهاب من مكانٍ إلى آخر، بدأت مغامرتي بالخروج من المعرض وركوب "بودا" (دراجة نارية أجرة). اسم "بودا بودا" مأخوذ من الفترة التي كانت الحدود الرواندية- الأوغندية مغلقةً فيها؛ ولم يكُن مسموحاً للمسافرين سوى بركوب الباصات إلى الحدود ثم دراجة تنقلهم إلى الجانب الآخر حيث محطة الباصات.
كانت العربية والإنجليزية هما اللغتان الوحيدتان اللتان أعرفهما. حاولت أن أتعامل بهما، لكن الكلمة الوحيدة التي استطعت سماعها كانت "وابي" التي يقولونها وهم يلوّحون بأيديهم في الهواء. استخدم هذه الكلمة حين طلب سائق الـ"بودا" مبلغاً باهظاً ثمناً لتوصيلي إلى النصب التذكاري مع أنَّه كان يحكم عليَّ بكل الطرق الممكنة ويتضاحك وهو يقول لي: "حسناً اركبي". "واااابي" بالعامية الرواندية تعني "لا" حين تُقال بصوتٍ مرتفعٍ وبطريقة مازحة.
كانت تجربتي الأولى في ركوب "بودا" مذهلة في "كيغالي"، المدينة المعروفة بـ"مدينة الألف تل". تسارعت ضربات قلبي كلما انعطف السائق بالدراجة أو حين تتجاوزنا سيارة على الطريق. شعرت بالحرية كلها، وبالقوة التي جعلتني أسافر وحيدةً وأستقر على دراجة نارية في أقل من 12 ساعة من وصولي إلى "كيغالي".
كان والدي ومستخدمو "غوغل" الذين كتبوا مراجعات عن النصب التذكاري على حقٍ تماماً فيما قالوه. كان الأمر مؤلماً وصادماً كيف تجاوزوا حدثاً مثل هذا، لم يعُد يتحدَّث عنه أحد رغم انه جرى منذ وقت قريبٍ وكان أثره على هذا الجيل هائلاً.
كان والداي ينصحانني دوماً بأهمية أن أكون قادرة على أن أقضي وقتي وحيدةً. "يجب أن تتمتعي بصحبة نفسك لكي تتمكني من التمتع بصحبة الآخرين". وكانوا على حق؛ فقد تعلَّمت هذا حين انتقلت إلى لندن، وما زلت أذكر هذه النصيحة حتى وأنا في رواندا، أتجوَّل في المدينة، وأتناول طعامي وحيدة، وأستكشف أرجاء المدينة بنفسي؛ فشعرت بالرضا.
كان المشهد الفني في رواندا مزدهراً؛ فقد افتُتحت في الفترة الأخيرة العديد من المعارض. حين ذهبت لأزور أفضلها هناك حسب آراء الزوار، أرشدني واحد من المُلَّاك في المكان، وقبل أن أرحل لمحت مجموعة من الشباب والفتيات يتحدثون إلى الرجل، وفكرت: "يا إلهي! أنا لا أدري كيف أتحدث إلى الناس وقد نسيت طريقة الحديث إليهم بعد غيابي في البرية لفترة طويلة". وقررت أن أبدو وكأني ألتقط بعض الصور حتى أستجمع شجاعتي لأتحدث إليهم.
من حسن حظي أن جاءت فتاة تدعى سارة لتعرفني بنفسها؛ ولم تمر ثوانٍ حتى كنا في طريقنا إلى أحد المقاهي. جلست في المقهى قلقةً وأنا أنظر إلى التلال والمناظر الخضراء أمامي وأتظاهر بكتابة مذكراتي حتى وصلت المجموعة. أعتقد أني أقل إنسانة في المهارات الاجتماعية على ظهر الأرض.
كانت المجموعة رائعةً. تحدثنا لمدة طويلة ولم أشعر بأني غريبة عنهم على الإطلاق؛ واستمرت الرحلة في "كيغالي" بالطريقة نفسها. تفاعلت مع الروانديين وثقافتهم أكثر من أي بلدٍ آخر زرته. كانت تحيطني مجموعة من الناس مروا بالكثير من التجارب ويستخدمون الفن للتعبير عنها. كان الأمر مذهلاً؛ كانت تغمرني قلوبهم المفتوحة المسالمة، ولم يحكموا على مظهري أو ديني.
والآن قد حان وقت الوداع والذهاب في رحلة تستمر 14 ساعة بالباص إلى أوغندا. يتبع الباص شركة شرق أفريقيا؛ ولا أنصح أي شخصٍ عاقل بركوبه أبداً. حين كنت أشتري التذكرة سألني الموظف إن كنت أرغب في دفع خمسة دولارات إضافية لأحجز مقعداً في قسم الـVIP. هل تدرون ما هو الفرق الذي أخبرني به بينه وبين المقاعد العادية؟ "سيدتي، هناك ستتمكنين من التنفس". كم كنت محظوظة لأني أمتلك خمسة دولارات إضافية كي أتمكن من التنفس في رحلة تمتد 14 ساعة.
صعد الغرباء إلى الباص ونزلوا منه؛ واستمر الوضع هكذا حتى حين أصبحت رائحة الباص لا تطاق. شاهدنا مسلسلات تليفزيونية أفريقية وحاولنا النوم على أنغام موسيقى الريغي التي تنطلق من السماعات. تسابقنا مع الحافلات الأخرى على الطريق وكدنا نقتل بعض الأطفال الذين كانوا يلعبون في وسط الشارع. كنا نسير على الجانب الخطأ من الطريق في ثلاثة أرباع الرحلة ولوَّحنا لضباط الشرطة بينما كنا نقود متجاوزين السرعة المقررة. كان كابوساً عشت فيه لمحة من حياتهم بطريقة لا تُنسى. عذراً يا أمي وأبي لأنكم تعرفون حقيقة ما حدث الآن في هذه التدوينة.
لكني أحببت كل لحظةٍ في الرحلة. كان الأوغنديون مجانين تماماً. أرهقتني الطاقة التي تشع منهم في الشوارع.
كان أحد أصدقائي يعتني بأموري هناك. فتحت عائلته بابها لي كأني أحد أفرادها؛ وكان والده يتفاخر أمام الجميع بأني ابنته، وجعلني أخوض تجربة أوغندية كاملة.
تناولت لبن البقر الساخن الطازج مع قطع التوست كل يوم في الإفطار، وهو ما يعدونه إفطار الرجال. ليس من شكٍ أنه قد جعل بطني تتقلَّب. كنت مضطرة لإضافة الكثير من السكر وبودرة الشوكولاتة لأجعل طعمه مقبولاً.
كانت أسرة صديقي تملك مزرعة؛ فذهبنا إلى هناك ذات يومٍ لقطف المانجو والفواكه. استوقفنا بعض رجال الشرطة ليسألوا بنبرة طبيعية تماماً: "هل لديكم شيء من أجلنا اليوم؟". لم أرد لكن ديفيد ردَّ قائلاً: "كلا ليس اليوم". فقال له الرجل: "قل للسيدة إننا نتوقع شيئاً من أجلنا قريباً". وفجأة تذكرت حقيقة وجود حكومة فاسدة في البلد الذي عشقته.
لكن يومي الأخير كان يقترب، ولم تكن رحلتي لتنتهي سوى بـ"بودا بودا"، وهو أفضل طريقة للذهاب في مغامرة بين أرجاء "كامبالا". بعد ستة ساعات رأيت "كامبالا" من قمة مئذنة مسجد القذافي الذي منح المسلمين مكاناً للصلاة. أكلت "روليكس"، وهي وجبة يأكلها العمال ليتمكنوا من مواصلة يومهم. قدنا خلال طرقات "ناكاسيرو" حيث اكتشفت أن الجنادب تؤكل باعتبارها من الرفاهيات، ورأيت الزنازين التي استخدمها عيدي أمين لقتل الآلاف والآلاف من الناس اختناقاً.
كان قلبي ينفطر في كل مرة أتذكر فيها العودة إلى البيت. لم أكن أود العودة؛ فقد ارتبطت بأفريقيا وكنت قلقةً لأن ليس لدي الرابط نفسه في لندن.
وبينما كنت أجلس في المطار انتظاراً لرحلتي التي تأخرت كثيراً، تأملت نفسي قبل الذهاب في هذه الرحلة، وربتُّ على ظهري لأطمئنها: "لقد أكملت مغامرتي حتى نهايتها". لقد وصلت إلى مكان لم أتخيل أني سأعبره بسلامٍ؛ فقد تخيَّلت قبلها أني سأسقط وسيضطر والداي إلى الحضور إلى هنا لإنقاذي.
أذكر الرحيل وفزعي من الحشرات وكل تلك الأمور التافهة التي كنت مترددة لأجلها. تعاملت معها جميعاً وجرَّبت كل شيء: فقدت مخدتي بعد أسبوع من الرحلة ونمت دون مخدة لـ33 يوماً (كان هذا جحيماً لكني تجاوزته)؛ ومشت دودة على جسدي بأرجلها الصغيرة حين كنت نائمة في الخيمة (وتجاوزت ذلك مرتدية بيجامتي وألواناً غير متناسقة لا يتخيلها أحد)
تجاوزت الجاموس الذي كان يقف على بعد أمتار مني؛ وشعرت بالحقد على زملائي الذين كانوا يرتدون قمصاناً وبناطيل قصيرة بينما كان يجب علي أن أرتدي حجابي كاملًا؛ وتجاوزت السير في الليل المظلم لأذهب إلى الحمام أدعو الله ألا يخرج شيء ما ليهاجمني؛ وتجاوزت الشعور بالاتساخ حتى كان لون يداي وقدماي أسود تماماً ولا يذهب حتى بالاستحمام والفرك. سبحت في أكبر شلال في العالم؛ ونمت تحت النجوم؛ وقفزت بالمظلة؛ وخيَّمت لمدة 40 يوماً خضت خلالها مجاهل أفريقيا يوماً بعد آخر.
كنت أشعر بالفخر لأن الأسباب التي كانت تدعوني إلى عدم المغامرة قد هزمتها تماماً، حتى وإن كنت أضحك، أو أبكي، أو أتلوا الشهادتين حين يتوقف نَفَسي أحياناً.
فجأة شعرت بقلبي يسكن؛ إذن كنت قادرة على فعل كل ذلك والتغلب على كل تلك المخاطر في عالم لم أتخيل نفسي جزءاً منه بسبب مخاوفي، فأنا الآن أملك قلباً من حديد وعقلاً يزدهر بالأفكار.
لم أكن أدري أن لديَّ كل هذا، لكن يجب على الجميع أن يعرف شيئاً واحداً: كلنا لدينا قلب وعقل كهذا.
** الصور من مدونة مريم حراز عن رحلتها إلى أفريقيا.. المزيد هنا، ويمكن زيارة حسابها على انستغرام هنا.
لقراءة الجزء الأول من هذه التدوينة يُرجى الضغط هنا
الجزء الثاني اضغط هنا
الجزء الثالث اضغط هنا
الجزء الرابع اضغط هنا
الجزء الخامس اضغط هنا
الجزء السادس اضغط هنا
الجزء السابع اضغط هنا
الجزء الثامن اضغط هنا
الجزء التاسع اضغط هنا<
الجزء العاشر اضغط هنا
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.