عندما تتحدث عن الوطن، فأنت تتحدث عن الدفء والأنس والاستقرار، تتحدث عن السعادة وفضاء من الحرية لا تملكه في مكان آخر، ولكن إذا اغتُصِبَ منك الوطن فأنت خسرت أغلى ما تملك، إنها قصة ملايين الفلسطينيين الذين ينتشرون في مختلف بقاع الأرض، وعلى أرض فلسطين (المحتلة).
ولِدْتُ بعد النكبة بعقود، وقُدِّرَ لي أن أولد في الغربة؛ حيث عشت عدة سنوات قبل العودة إلى فلسطين، ومنذ الطفولة فطنت إلى النكبة التي جعلت من فلسطين حلماً لأغلب أهلها الذين لا يتمكنون من الوصول إليها، وكنت وعائلتي الأكثر حظاً حينها؛ إذ كنا "مواطنين"، أي نحمل أرقام هويات كسكان للضفة الغربية، وكنا نزور فلسطين سنوياً تقريباً، وبعد كل زيارة تجتمع العائلات الفلسطينية في الغربة، ويتحلق الأطفال حولنا ويسألوننا عن فلسطين، بكثير من الشغف والحنين، كيف هي فلسطين؟ أرضها سماؤها.. مبانيها.. زيتونها، والمسجد الأقصى، والبحر؟! كنت لا أزال طفلة صغيرة، وكنت أتحدث عن فلسطين بحب، لقد كانت حلمي الذي يمكن أن يتحقق يوماً -والذي تحقق فيما بعد- أما الكثير من الأطفال حولي فقد كانت شيئاً من الخيال وضرباً من المستحيل أن يطأوا أرضها، ويتنفسوا هواءها، وكان منهم طفل في مثل عمري تقريباً، يدعى "ياسر"، كانت أصولهم تنحدر من إحدى القرى القريبة من غزة، كان طفلاً مشاكساً وعنيداً، ولكنه كان حالماً، كان يحلم بفلسطين كثيراً، ودائماً يقول إنه سوف يعود إلى فلسطين، وسوف يجلس على شاطئ البحر، وكان يتخيل فلسطين وجمالها ويتحدث عنها في كل وقت، وكان يتمنى أن يصبح قبطاناً لسفينة، ويقودها من البحر إلى شواطئ غزة؛ كي يعود إليها، كنا إذا ذهبنا لزيارتهم يجمعنا في فناء المنزل الخلفي، وينصب من بعض الخردوات شيئاً يسميه سفينة، ونصعد إليها جميعاً وهو القبطان يقودها بنا في عرض البحر إلى شواطئ "فلسطين"، كنا جميعاً نحب هذه اللعبة، وفي كل مرة نذهب إليهم نلعب اللعبة ذاتها، أما إذا جاءوا إلى بيتنا فإننا نجمع الكراسي الموجودة في المنزل ونرتبها صفوفاً كحافلة، ونجلس، والوجهة أيضاً: "فلسطين".
تركت "ياسر" طفلاً في الصف الخامس الابتدائي، عندما قررنا الرحيل مع العائلة والاستقرار في فلسطين، أما أنا فقد تحقق حلمي أن أعيش في فلسطين، ولكن الحلم مع النكبة منقوص؛ إذ ليس لي حرية بزيارة المسجد الأقصى متى أردت، فلم أزره إلا مرات معدودات، ولا أنا أستطيع الوصول إلى البحر الذي أحلم به، مع أنني أعيش قريبة منه، وأراه في الأفق من سطح منزلنا، لكنه ما زال حلماً بعيد المنال، وأما "ياسر" فقد بقي في الغربة، وتوفي بحادث سيارة نهاية الصيف الماضي، ودُفِنَ في الغربة ودُفِنَت أحلامه معه، ولو أنه يستنشق هواء فلسطين لمرة واحدة، هذه هي النكبة، أن تعيش على حلم الوطن، وتموت ويُدْفَن الحلم معك، قصة "ياسر" ليست قصته وحده، إنها قصة ملايين الفلسطينيين حول العالم، نكبتنا أكبر بكثير من أن تحدَّدَ لها بداية، أو نهاية، النكبة قائمة وتمسُّ حياتنا كل يوم، وتئد أحلامنا حلماً خلف حلم، وتطارد حريتنا المذبوحة، وتسلبنا أبسط حقوقنا كبشر، النكبة ليست ذكرى، النكبة واقع مُرُّ المذاق عليه أن ينتهي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.