يستلقي جثمان فلاديمير لينين، أول زعيم سوفييتي، داخل تابوت زجاجي بشاربه الأحمر المتأنق ويديه اللتين تستندان إلى فخذيه مرتدياً حلةً سوداء؛ ويبدو للوهلة الأولى كما لو كان تمثالاً شمعياً.
والحقيقة أنه جثمان لرجل مات منذ 92 عاماً وتم حفظه. ويعتقد العلماء أنه في حالة متابعته بعناية وإعادة تحنيطه بانتظام، يمكن أن يظل في نفس هذه الحالة على مدار قرون من الزمن، وفق تقرير نشرته صحيفة الغارديان البريطانية، الإثنين 9 مايو/أيار 2016.
ومع ذلك، قد تصبح التكلفة باهظة. ففي الشهر الماضي، أعلنت هيئة الحرس الفيدرالي التي تتولى العناية بكافة المناحي المحيطة بالكريملين، بما في ذلك الضريح الذي يتم الاحتفاظ بجثمان لينين داخله، أن تكاليف الأعمال الطبية والبيولوجية اللازمة للحفاظ على جثمان لينين تصل إلى 13 مليون روبل (197 ألف دولار) عام 2016.
التجميد الشديد لا التحنيط
حينما توفي لينين في يناير/كانون الثاني 1924، لم يخطط أحد للاحتفاظ بجثمانه لهذه الفترة الطويلة. فقد قام أخصائي علم الأمراض الشهير أليكسي أبريكوسوف، الذي قام بتشريح الجثمان، بقطع شرايينه الرئيسية.
وقال أليكسي يورشاك، أستاذ الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة كاليفورنيا: "لاحقاً كان سيقول إنه لو كان يعلم أنهم سيحنطون الجثمان، لما فعل ذلك. كان من الممكن استخدام الأوعية الدموية في توصيل المواد الكيميائية للأنسجة".
وعقب تشريح جثمان لينين، تم تحنيطه بصفة مؤقتة لتجنب تحلله الفوري خلال الأيام الأربعة التي ظل بها داخل تابوت مفتوح في دار الاتحاد بوسط موسكو. وقام أكثر من 50 ألف مواطن بإلقاء النظرة الأخيرة عليه في القاعة التي يستلقي بها، رغم انخفاض درجة الحرارة بها إلى 7 درجات تحت الصفر.
ومع ذلك، بينما ظلت أفواج من الناس تأتي من مختلف أنحاء البلاد، نقلت الحكومة التابوت إلى ضريح خشبي مؤقت بالميدان الأحمر. ونظراً لشدة البرودة، ظل الجثمان سليماً على مدار 56 يوماً، ومع قدوم المناخ الأكثر دفئاً تدريجياً، قرر المسؤولون الروس الاحتفاظ بالجثمان بصفة دائمة.
لم تتضمن الفكرة الرئيسية التحنيط على الإطلاق، ولكنها كانت تنطوي على التجميد الشديد. وحصل ليونيد كريزن، وزير التجارة الدولية في ذلك الحين، على تصريح باستيراد أجهزة تجميد خاصة من ألمانيا.
ومع ذلك، ففي أوائل مارس/آذار 1924، حينما كانت الاستعدادات تكتسب زخماً، اقترح عالمان كيميائيان، هما فلاديمير فوروبيوف وبوريس زبارسكي، تحنيط الجثمان بمزيج كيميائي يحول دون تحلل الجثمان وتجفيفه وتغير لونه أو هيئته.
وبعد سلسلة من الاجتماعات والمعاينات الحكومية، حصل العالمان على الموافقة.
وعلى مدار عدة شهور، شرع فريق من العلماء في تبييض البشرة وحساب مكونات المزيج الكيميائي السليمة. وكانوا يعملون ليل نهار تحت ضغوط المسؤولين الروس.
وعندما تمت إعادة فتح الضريح القائم بالميدان الأحمر للزوار في أول أغسطس/آب 1924، كانت النتيجة إيجابية للغاية، حيث نقل عن زبارسكي قوله: "مذهل! إنه انتصار رائع".
معمل لينين
تم تكليف مجموعة من العلماء منذ عام 1924 بالحفاظ على سلامة الجثمان. وفي ذروة نشاط معمل لينين خلال فترة الاتحاد السوفييتي، كان يضم نحو 200 أخصائي يعملون بالمشروع، بحسب ما ذكره يورتشاك.
واليوم، أصبح الفريق أقل عدداً، ولكن العمل لم يتغير كثيراً. ويقوم العلماء كل بضعة أيام بزيارة الضريح لفحص الجثمان، حيث يتم الاحتفاظ به في درجة حرارة وإضاءة محسوبة بعناية فائقة؛ ويتم نقل الجثمان كل 18 شهراً إلى معمل أسفل غرفة شبه معتمة لإعادة التحنيط.
ورغم أن العلماء قد تمكنوا من الحفاظ على هيكل لينين العظمي وعضلاته وبشرته وأنسجته الأخرى، إلا أنه تمت إزالة كافة أعضائه الداخلية. فقد تم إخراج مخه لفحصه بمعهد المخ السوفييتي، الذي أقيم في أعقاب وفاة لينين لتولي مهمة دراسة "قدراته الاستثنائية". ولاتزال أجزاء من المخ محفوظة حتى يومنا هذا بمركز علم الأعصاب بالأكاديمية الروسية للعلوم.
وقد أدت التقنية الفريدة التي طورها العلماء الروس أيضاً إلى قدوم العديد من "العملاء" من الخارج. فإلى جانب لينين، قام المعمل في موسكو بتحنيط الرئيس الفيتنامي هو تشي مين والزعيم البلغاري جورجي ديميتروف وزعيمي كوريا الشمالية كيم إل سونغ وكيم جونغ إل، من بين آخرين. وذلك باللإضافة إلى الدكتاتور السوفييتي جوزيف ستالين، الذي رقد جثمانه المحنط إلى جانب جثمان لينين فيما بين عامي 1953 و1961.
وتمت كافة عمليات التحنيط في سرية تامة، حيث كان العلماء العاملون بالمعمل يسافرون من حين لآخر إلى فيتنام أو كوريا الشمالية لإجراء عمليات الصيانة الدورية. ويوضح فاديم ميلوف، مسؤول التحنيط الذي عمل بالمعمل فيما بين عامي 1987 و1997: "لم يتم إخطار صغار المتخصصين من أمثالي في ذلك الوقت بأي تفاصيل. ومع ذلك، فقد حصلت على ما يكفي من المعلومات كي أسافر إلى فيتنام وأقوم بتحنيط جثمان هو تشي مين".
ولم تنجح محاولات إجراء أي لقاءات مع أي شخص يعمل داخل المعمل حالياً. وعقب العديد من الطلبات الكتابية للتعليق، رفض نيكولاي سيدلنيكوف، مدير المعهد الروسي للنباتات العطرية والطبية، منح أي معلومات نظراً لكونها "خاضعة للسرية التجارية وخصوصية الدولة".
ويذكر يورشاك، الذي كان يدرس جثمان لينين على مدار سنوات وأجرى لقاءات مع العديد ممن يعملون بالمعمل، أن الأمر لا يحظى بكل تلك السرية دائماً.
وذكر أنهم أجروا الكثير من اللقاءات خلال التسعينيات، و"قامت إحدى القنوات التلفزيونية بتصوير فيلم وثائقي تفصيلي يتناول المرافق الخاصة بالضريح. ومع ذلك، لا ترغب إدارة المعمل في أن يحول الصحفيون أعمالهم إلى نكات، وهذا ما يفعلونه دائماً".
لينين في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي
واجه معمل لينين أوقاتاً عصيبة في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي. ففي عام 1991، دعا العديد من الحكام الديمقراطيين الجدد لروسيا إلى هدم الضريح ودفن لينين في مكان آخر. وأدى ذلك إلى اندلاع احتجاجات كبرى، بحسب ما ذكره إفجيني دوروفين، النائب عن الحزب الشيوعي بمجلس الدوما رئيس إحدى المنظمات غير الحكومية التي تدعم الاحتفاظ بالضريح في حالته لراهنة.
ويذكر دوروفين: "ذهب الكثيرون إلى الميدان الأحمر للاحتجاج على هذا التجديف. ولحسن الحظ، خرج قائد حرس الكرملين في النهاية وقام بتهدئة الجميع وأخبرهم بأن الضريح في مأمن".
ومع ذلك، توقفت الحكومة عن تمويل المشروع عام 1991، بما أدى إلى التشكك في مستقبل الضريح. ورداً على ذلك، قام الحزب الشيوعي بجمع التبرعات. ويذكر دوروفين: "دفعنا تكلفة كل شيء سوى الغاز والمياه والكهرباء"، ولكنه رفض تحديد حجم وقيمة المبالغ التي جمعتها المؤسسة وأنفقتها. وأضاف أن الدولة لم تشرع في تمويل الضريح ثانيةً إلا منذ عامين.
ومع ذلك، يتمثل الخطر الأكبر الذي يتهدد مستقبل الضريح في الأجيال القادمة. فالعلماء يهرمون ولا يوجد باحثون من الشباب يرغبون في أن يحلوا محلهم. ويذكر يورشاك: "الشباب لا يهتمون بعلوم الضريح، حيث لم تعد تحظى بالهيبة والمقام الرفيع".
ولا يوجد حل واضح؛ ومع ذلك، فإن فكرة دفن ذلك الرمز السوفييتي لا تحظى بشعبية كبيرة.
وإذا حدث ذلك، فإنها تعني انتهاء تجربة لا مثيل لها دامت على مدار 92 عاماً. ويقول يورشاك: "سوف يمثل ذلك خسائر للعلوم والدراسات والاكتشافات".
وفي غضون ذلك، تم إغلاق الضريح بصفة مؤقتة. وتتولى السلطات تجهيز الميدان الأحمر لاستعراضات عيد النصر؛ وسوف يتم افتتاحه مرةً أخرى في 18 مايو/أيار، حيث يبدو لينين مفعماً بالحيوية كحالته دائماً.
– هذا الموضوع مترجم بتصرف عن صحيفة The Guardian البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.