لا يقف تقدير الإسلام عند أصحاب الرسالات السابقة، بل نرى الإسلام وفيا لكل صاحب فضل، سواء للبشرية، أو للرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك موقفه صلى الله عليه وسلم مع ابنة حاتم الطائي، الذي عرف أبوها بالكرم، وهي أخت عدي بن حاتم، الذي كان يقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن نفسه: ما من رجل من العرب كان أشد كراهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به مني، أما أنا فكنت امرءًا شريفًا، وكنت نصرانيًّا، وكنت أسير في قومي بالمرباع، فكنت في نفسي على دين، وكنت ملكًا في قومي لما كان يصنع بي، فلما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم كرهته، فقلت لغلام كان لي عربي، وكان راعيًا لإبلي: لا أبا لك، أعدد لي من إبلي أجمالاً ذللاً سماناً فاحتبسها قريباً مني، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذني، ففعل، ثم أنه أتاني ذات غداة فقال: يا عدي ما كنت صانعًا إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن، فإني قد رأيت رايات، فسألت عنها فقالوا: هذه جيوش محمد.
قال: فقلت: فقرب إلي أجمالي، فقربها، فاحتملت بأهلي وولدي ثم قلت: ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام، فسلكت الجوشية، ويقال: الحوشية قال ابن هشام: وخلفت بنتاً لحاتم في الحاضر فلما قدمت الشام أقامت بها. وتخالفني خيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتصيب ابنة حاتم فيمن أصابت، فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبايا من طيىء، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هربي إلى الشام.
قال: فجعلت بنت حاتم في حظيرة بباب المسجد، كانت السبايا يحبسن فيها، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت إليه وكانت امرأة جزلة فقالت: يا رسول الله هلك الولد، وغاب الوافد، فامنن علي مَنَّ الله عليك، قال: ومن وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم قال: الفارُّ من الله ورسوله؟ قالت: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركني، حتى إذا كان من الغد مر بي، فقلت له مثل ذلك، وقال لي مثل ما قال بالأمس، قالت: حتى إذا كان بعد الغد مر بي وقد يئست منه، فأشار إلي رجل من خلفه: أن قومي فكلميه، قالت: فقمت إليه فقلت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علي مَنَّ الله عليك، فقال صلى الله عليه وسلم: قد فعلت، فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك، ثم آذنيني، فسألت عن الرجل الذي أشار إلى أن أكلمه، فقيل: علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، وأقمت حتى قدم ركب من" بلي" أو" قضاعة"، قالت: وإنما أريد أن آتي أخي بالشام، قالت: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ، قالت: فكساني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحملني، وأعطاني نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام.
وموقفه صلى الله عليه وسلم من حلف الفضول، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان، وصنع لهم يومئذ طعاما كثيرا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ معهم قبل أن يوحى إليه، وهو ابن خمس وعشرين سنة، فاجتمعت بنو هاشم، وأسد، وزهرة، وتيم، وكان الذي تعاقد عليه القوم وتحالفوا: أن لا يظلم بمكة غريب ولا قريب، ولا حر ولا عبد، إلا كانوا معه حتى يأخذوا له بحقه، ويردوا إليه مظلمته من أنفسهم، ومن غيرهم، ثم عمدوا إلى ماء زمزم فجعلوه في جفنة، ثم بعثوا به إلى البيت فغسلت به أركانه، ثم أتوا به فشربوه، فحدث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان من حلف الفضول ما لو دعيت إليه لأجبت، وما أحب أن لي به حُمْر النَّعَم". هذه نظرة الإسلام وفاءًا لكل الرسل، ولكل صاحب فضل.
تقدير نبي الإسلام للعقلاء من خصومه:
ومن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في وفائه وتقديره كل من يستحق هذا التقدير، وحفظ مكانة كل ذي مكانة أو فضل، حتى وإن كان خصما، فقد كان صلى الله عليه وسلم يعرف قدر خصومه، ويذكر لهم فضائلهم، وهذا منهج قرآني وهو منهج الإنصاف، ومن ذلك: قوله عن المطعم بن عدي: "لو كان المطعم بن عدي حيا، وكلمني في هؤلاء النتنى".
ففي هذا الحديث تعبير عن الوفاء والاعتراف بالجميل، فقد كان للمطعم بن عدي مواقف تذكر بخير، فهو الذي دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في جواره حينما عاد من الطائف، كما كان من أشد القائمين على نقض الصحيفة يوم حُصِر المسلمون وبنو هاشم في شعب أبي طالب. وهذا يدل على تقدير النبي لخصومه، والوفاء لمواقف الرجال ولو كانوا مشركين.
ومن تقدير النبي صلى الله عليه وسلم لخصومه: موقفه مع سهيل بن عمرو، فقد كان عليه الصلاة والسلام يخبر معدن سهيل بن عمرو منذ أن وقع بين يديه أسيرا في بدر، فأتى عمر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو، ويدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا. فقال صلى الله عليه وسلم: "لا أُمَثِّل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيا".
قال ابن إسحاق: وقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر في هذا الحديث: "إنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمه".
ورغم كل ما أبدى من حلف الحديبية، قال عنه عليه الصلاة والسلام حين رآه: "لقد سهل عليكم أمركم، لقد أرادت قريش الصلح حين بعثت بهذا".
وهو نفسه الذي قال عنه عليه الصلاة والسلام وهو متجه إلى مكة ليفتحها: "إن بمكة لأربعة نفر من قريش أربأ بهم عن الشرك، وأرغب لهم في الإسلام، قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: "عتاب بن أسيد، وجبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، وسهيل بن عمرو".
رعاية الإسلام لمقدسات الآخرين:
إذا كان الوفاء للرسالات السابقة هو خلق نبي الإسلام، فالإسلام كذلك هو الدين الوحيد الذي يرعى مقدسات الآخر، وينهى المسلم عن إيذاء مشاعر الآخرين دينيا أو اجتماعيا، ونهى الإسلام عن إيذاء مشاعر الآخرين بسب مقدساته.
والإسلام لا يفرق بين إساءة لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأي إساءة لأي نبي آخر، فالإساءة لنبي الله موسى عليه السلام، أو عيسى عليه السلام، تعد في الإسلام كفرا، وإساءة تستوجب توبة صاحبها، ولو أساء فرد إلى أم المسيح عليه السلام السيدة مريم فقال: إنها أتت بالمسيح عليه السلام من الحرام، فهذا يعد في الإسلام كافرا، لأنه أساء إلى امرأة طهرها القرآن، وذكر عفتها وشرفها في القرآن الكريم فقال: (وقولهم على مريم بهتانا عظيما) النساء: 156، وقال تعالى: (يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين) آل عمران: 43.
بل حتى مع عباد الأصنام، طلب الإسلام ألا يسب المسلم مقدساتهم أمامهم، أو يذكرها بسوء أمامهم، فقال: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) الأنعام: 108.
إذا كانت هذه نظرة الإسلام لمقدسات الآخرين، فهو ما ينتظره المسلمون من أتباع هذه الديانات والحضارات، أن تقابل احترام الإسلام وأهله لهم بنفس الدرجة، لا أن تُصدم برسوم وروايات مسيئة، لهم ولدينهم، بدعوى حرية التعبير، فالتعير يكون فكرا، لا سبا وتطاولا، فهناك فرق بين أن أقول لك: إن فكرتك الفولانية خطأ، أو إدارتك في العمل ضعيفة، وبين أن أقول لك: ملعون أبوك!! والقوانين كلها تفرق بين التعبير والسب، بين النقد والإساءة والتجريح، فتراعي وتحمي التعبير، وتجرم وتعاقب على السب والإساءة.
هذا موقف مبدئي كان ينبغي علينا أولا، أن نبينه ونوضحه، حتى لا يكون كلامنا في اتجاه واحد، بل نحن نوجه قلم التصويب لكل من أخطأ، من أي طرف كان، مسلما أو غير مسلم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.