حكاية بحر!

وعندما يعلن النّهار اندثاره، يودّع هذا الصيّاد الشمس متمنياً أن تكون قد حملت معها أمانته، تبثّها إلى البلاد الأخرى، أمّا الصيّادون الآخرون يغادرون مراكبهم، تاركين شباكهم، وقسطاً من همومهم يرمون بها في البحر، في اليوم التّالي.

عربي بوست
تم النشر: 2016/04/30 الساعة 02:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/04/30 الساعة 02:50 بتوقيت غرينتش

أقف على شرفة منزلنا التي تطل على مدينة شُيّد سورها بجانب بحرٍ بانَ عليه الملل..

فأراه ساكناً، هادئاً تتأرجح مياهه ببلادة، كرجل هرم لا يقوى على الحراك. حسبت وللوهلة الأولى بأنّ القمر توقف عن الدوران، وبالتالي توقف المد والجزر.. فما عادت الأمواج تداعب أطراف الشاطئ، وما عادت تغازل أصدافه التي خبا فيها صدى تلك الأمواج.

أثناء وقوفي على شرفتنا، ساورني شعور بأن البحر يعي أنني أتأمل حالة الفتور التي يمر بها، فهمس لي كي ألقاه عند الرمال، تلك الحدود التي تنتهي عندها رحلة اليابسة وتبدأ رحلة المياه.

أمتطي سيارتي ملبيةً نداء المستغيث، وأجلس أمامه، فيرسل لي من تلك الأمواج فوجاً يحييني ويشكرني على مجيئي، أحمل بين كفَّيَّ ما تيسَر لي من زبده، أشتمُّهه، ومن ثمَّ أعيده برفق من حيث أتى، كما تعيد الأم طفلها الغافي إلى المهد..

باختصار، كانت هذه من طقوس الترحاب التي نمارسها عند كل لقاء بيننا. ننتظر قليلاً، قبل أن يشرع أحدنا بالكلام وكأننا نتأمل المكان جيداً للتأكد أن ما من أحد يراقبنا. اليوم دوري أن أصغي ودوره أن يتكلم.

يبدأ البحر بكشف مكنوناته، تارةً يعلو الموج، فأعلم أنه ساخط وغضبان، يود لو يُغْرِقَ المدنَ القريبة منه ثأراً له، وتارة أخرى يرسل موجة خجولة تدلُّ على ضعفه وهزيمته وقلة حيلته. أتلمس مياهه برفق كمن يربت على كتف صديقه ليهدئ من روعه ويخفف من حزنه. بعد أن لفظ البحر جام غيظه، عاد إلى حالة الهدوء ما بعد العاصفة، عندها علمت أن جعبته لليوم قد خلت من الشكوى، وهنا تكون جلسة المصارحة قد انتهت.

أتوجه نحو المدينة.. أتفقد أبنيتها، فأراها تقف بانكسار وخجل، كأنها سمعت شكوى ذاك البحر الناقم، وتسأله المغفرة والصفح عنها. حالة الملامة بين البحر والمدينة قادتني مرة أخرى إلى أطراف الشاطئ، أنقل إلى البحر رسالة المدينة لكنه لم يجيبني ولم يحرك ساكناً وكأنه هَجَر مستقرَّه هذه المرة إلى غير عودة، فأبقى جالسة على الرمال أنتظر ردَّه متأملةً حال المراكب التي أخذت من صفحة المياه بساطاً لها، تنتظر بفارغ الصبر أن تهتز الشباك معلنة عن صيد وفير. أما الصيادون، أصحاب تلك المراكب، منهم من اتَّخذ من يده عصاً يتكئ عليها، سارحاً بنظره في عمق الماء، باحثاً عن همومه التي ألقى بها داخل البحر سائلاً نفسه: أترى مَن مِن المخلوقات البحرية يشاطرني أشجاني؟ أو إنها كالإنس، تهاب الأحزان والهموم وتغلق الأبواب المؤدية إليها؛ فلا البحار ولا المحيطات على استعداد للاستماع لشكواي.

بينما صيّاد غارق في عالم أفكاره، آخر يعلّم ولده كيفية الصيد وامتهان الصّبر؛ لأنه مفتاح كلّ صيد ميسور. وآخر مستلق ينظر إلى الشمس، يقرّ لها عما يخالج صدره من أحلام وأفكار، كما ويبوح لها عن تعلّقه بفتاة لطالما تقابلا في الروايات، وكلما جاء ليكلّمها، تتناثر كالرماد، فيغدو يبحث عنها في رواية أخرى، علّه يجدها، ويطمئنّ لحالها.

وعندما يعلن النّهار اندثاره، يودّع هذا الصيّاد الشمس متمنياً أن تكون قد حملت معها أمانته، تبثّها إلى البلاد الأخرى، أمّا الصيّادون الآخرون يغادرون مراكبهم، تاركين شباكهم، وقسطاً من همومهم يرمون بها في البحر، في اليوم التّالي.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد