بين تراث يهودي وتجربة شيوعية- صهيونية
ولد بيرني (بيرنارد) ساندرز في عام 1941، في مدينة نيويورك، لأبوين يهوديين من أصل بولندي. فقد هاجر إلياس ساندرز، والد بيرني، إلى الولايات المتحدة وهو في السابعة عشر من عمره هرباً من المصير الذي أودى بحياة بعض افراد عائلته على أيدي النازيين ابان الحرب العالمية الثانية في اوروبا.
عندما سؤل ساندرز في إحدى المناظرات الانتخابية عما إذا كان يتجنب الحديث عن ديانته، أجاب بأنه "فخور للغاية كونه يهودي" وأن "يهوديته تمثل ملمحاً مهماً مما أصبح عليه كانسان." لاري ساندرز، الأكاديمي والسياسي البريطاني والشقيق الأكبر لبيرني، أشار إلى أنه وأخيه لم يتشككا أبداً عندما كانا صغيرين في كونهما يهوديان. على الجانب الآخر، يؤكد ساندرز أنه "غير ممارس لأي شعائر دينية" وأن ايمانه بالله "ليس بالضرورة تقليدياً" كما تقتضي اليهودية.
حياة ساندرز وممارساته تدفع كذلك بأنه غير متدين أو أن يهوديته لا تعدو كونها – كما وصفها بنفسه – رافداً ثقافياً وأخلاقياً ساهم في تشكيل شخصيته. في يوم رأس السنة العبرية، والذي يعتبره معظم اليهود يوماً مقدساً للصلاة والاحتفال، فضل ساندرز أن يواصل حملته الانتخابية بجامعة الحرية المسيحية بولاية فيرجينيا. ولعل إجابة ساندرز هذه، والتي كررها في أكثر من لقاء ومناظرة، تشي بطبيعة عقيدته الروحية
"أنا أؤمن بما يدعو إليه جوهر المسيحية والإسلام واليهودية والبوذية وهو أن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك. ما آمنت به طوال حياتي هو أن على الجميع التآخي والتضامن. يجب أن نشعر بالأطفال الجوعى والعجائز بلا مأوى. عندما نفعل الصواب تجاه غيرنا، وعندما نعامل الناس باحترام وكرامة، فأننا نصير بذلك أكثر إنسانية. هذا ديني وهذا ما أؤمن به." يقول ساندرز
لذلك، لم يكن مستغرباً أن يصف البعض ساندرز بأنه المرشح الأكثر مسيحيةً في التاريخ.
في كل الأحوال بقيت إجابة المرشح الرئاسي عن يهوديته مباشرة وسريعة وواضحة. اختلف ذلك تماماً عندما تغير السؤال، في مقابلة مع عِذرا كلاين من موقع ڤوكث الإخباري، إلى "هل ترى في نفسك صهيونياً؟". لم يجب ساندرز مباشرة بل سأل – بشيء من الدهشة – "صهيوني؟! ما معنى ذلك؟ هل لك أن تُعرّف هذه الكلمة؟" وذلك قبل أن يرد بالإيجاب على السؤال الذي صاغه بطريقة مختلفة ليصبح "هل يعتقد أن لإسرائيل الحق في الوجود؟".
وأعقب ساندرز ذلك مباشرة بأنه كذلك يعتقد أن على الولايات المتحدة أن تكون وسيطاً عادلاً في التعامل مع الفلسطينيين. ورغم أن كلمة صهيوني لا تحمل في الغرب، وبخاصة بين اليهود، ذات الدلالات الكريهة ومعاني الخسة والانحطاط التي تحملها بين العرب والمسلمين، إلا أن تردد ساندرز في الإجابة على السؤال لربما كان نابعاً من قلقه أن يُفهم رده المباشر بالإيجاب على أنه موافقة على الممارسات اليمينية المتطرفة للحكومة الإسرائيلية الحالية وحلفائها الأصوليين الدينيين والتي صارت، لدى كثيرين، مرادفاً للصهيونية.
يفخر ساندرز بأنه المرشح الذي تربطه علاقات شخصية بإسرائيل وأن له أقارب يعيشون هناك. إلا أن بعض تفاصيل تلك العلاقات يشوبه الغموض والتعقيد أيضاً. فمن المعروف أن ساندرز، في العشرينيات من عمره، قد زار فلسطين التاريخية – إسرائيل – لعدة أشهر بين عامي 1963 و1964، وعاش في أحد الكيبوتزات المحلية التي كانت، للبعض آنذاك، تجسيداً عملياً للحياة على الطريقة الشيوعية. لكن ساندرز وحملته الانتخابية قد رفضوا باستمرار الإفصاح عن اسم هذا الكيبوتز أو مكانه. الأمر الذي دفع بجرائد يهودية مثل فوروارد وإسرائيلية مثل جيروزاليم بوست وهاآريتس إلى البحث المحموم خلف هذا اللغز. إلى أن عثرت الأخيرة في أرشيفها على ما كشف النقاب عن الكيبوتز الغامض. كان مقالاً قديماً، نشر عام 1990، أفاد بأن ساندرز بعد قضائه عدة أشهر بكيبوتز بوابة الوديان "قد فقد اتصاله بإسرائيل والصهيونية واليهودية". في تعقيب لها على هذا الكشف، شنت مجلة فرانت بيدج، اليمينية المتطرفة والمعادية للإسلام، هجوماً حاداً على بيرني ساندرز ووصفت بوابة الوديان بأنه "كيبوتز ماركسي ستاليني" وزعمت أن أحد مؤسسيه، وهو آهارون كوهين، كان عروبياً ومعارضاً لإسرائيل والذي قبض عليه، بحسب المجلة، في الخمسينيات من القرن الماضي بتهمة التجسس لصالح الاتحاد السوفيتي.
كانت زيارة الستينيات تلك هي المرة الأخيرة التي تطأ فيها قدم بيرني إسرائيل، لكن علاقتهما لم تنته. فقد كان الصراع العربي-الإسرائيلي، من آنٍ لآخر، حاضراً في تصريحات وأنشطة السياسي الأمريكي والذي بدأ مشواره عمدةً لمدينة بيرلينجتون، بولاية فيرمونت، منذ 1981 وحتى عام 1989. ثم عضواً بمجلس النواب منذ 1991 وحتى 2007، وعضواً بمجلس الشيوخ منذ 2007 وحتى اليوم، ممثلاً لولاية فيرمونت في كلا المجلسين.
فلسطين في خطاب ساندرز وسياساته
منذ بداية سبعينيات القرن الماضي كان بيرني ساندرز عضواً بحزب محلي بولاية فيرمونت يدعى حزب "اتحاد الحرية" والذي يعرِّفه موقعه على الانترنت بأنه حزب قائم على مبادئ الاشتراكية واللاعنف. خاض ساندرز مرشحاً للحزب 4 حملات انتخابية خسرها جميعاً، ليستقيل منه في 1977. يُنسب إلى بيتر دايموندستون – أحد مؤسسي الحزب – أن ساندرز أعلن خلال حملته الانتخابية الأولى في 1971 أنه يدعم "قطع الأسلحة عن إسرائيل". أورد أكثر من مصدر، مختلفي الاتجاهات والانتماءات، هذه المعلومة لكن من دون ذكر السياق الذي يوضح أسباب ذلك التصريح. لكن تصريحات أخرى أدلى بها ساندرز ترجح أنه كان، يوماً ما، ناقداً طلقاً لبعض سياسات وممارسات الكيان الصهيوني.
ففي عام 1988، خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وقت أن كان عمدةً مستقلاً لمدينة بيرلينجتون، انتقد بعنف جرائم الاحتلال الإسرائيلي من تكسير لأيدي وأرجل العرب وحصار واغلاق البلدات الفلسطينية. كان سياق الحديث هو دعم بيرني للمرشح الديموقراطي للرئاسة آنذاك جيسي جاكسون. إلا أن ردود ساندرز غير المتوقعة أثارت فضول الصحفيين فتابعوا توجيه الأسئلة للعمدة الذي واصل انتقاده لإسرائيل بعد أدان كذلك ما وصفه بالخطاب العربي المتعصب الداعي لتدمير إسرائيل، وهو أحد الانتقادات النمطية المحفوظة للساسة الأمريكيين. وذلك قبل أن يختتم حديثه بدعوة الولايات المتحدة لـ "قطع الأسلحة عن دول الشرق الأوسط" إذا لم يجلسوا سوياً للحوار والتفاوض. لم يستثني ساندرز إسرائيل من ذلك.
ورغم ان ساندرز لم يكن أول الداعين إلى إقامة وطن فلسطيني إلا أنه قد تبنى تلك الفكرة منذ 1990 في زمان كانت لا تزال إقامة دولة للفلسطينيين أطروحة مثيرة للجدل وربما غير مقبولة في الأوساط السياسية الأمريكية. في السنوات التالية، سجَّل تاريخ ساندرز التصويتي في الكونجرس الأمريكي له ظهوراً معارضاً لإسرائيل. ففي عام 1991، صوت ساندرز لصالح تعطيل 82.5 مليون دولار من المعونة الأمريكية لإسرائيل، إذا لم تلتزم الأخيرة بتجميد نشاطها الاستيطاني في الضفة وغزة. وخلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، في 2001، كان بيرني ساندرز النائب اليهودي الوحيد الذي لم يؤيد مشروع قرار يُلقي باللائمة على العنف الفلسطيني في تأجيج الأحداث! وفي 2004، صوت ضد مشروع قانون يدعم بناء جدار الفصل العنصري الإسرائيلي، والذي اعتبرته محكمة العدل الدولية جداراً "غير مشروع." وكذلك، في 2014، رفض – ضمن 21 سيناتور آخرين – التوقيع على مشروع قرار يعلن الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل خلال حربها على غزة.
ذلك كان جانباً مشرقاً من تاريخ بيرني ساندرز، لكنه ليس الوحيد. فقد كان الرجل مناصراً ومدافعاً عن إسرائيل كذلك في بعض الأحيان. لكنها كانت اللحظات التي يظهر فيها، بحسب رأي البعض، وكأنه يدافع عن شيء لأنه مضطراً لذلك. وكان أبرزها في 2014، عندما صرخ في أحد منتقديه من معارضي اسرائيل ليصمت والا استدعى له البوليس. وكان ذلك عندما حاول، ضمنياً، توجيه اللوم إلى قذائف حماس على إسرائيل. وذلك رغم أنه أدان الهجمات الإسرائيلية على أبنية الأمم المتحدة وأبدى حزنه لسقوط ضحايا من المدنيين. ساندرز، كذلك، كان دائم الحديث عن حق إسرائيل في الوجود وحقها في الدفاع عن نفسها ضد أي تهديد.
من سياسي مجهول إلى رئيس محتمل
في مقالتها بيرني ساندرز والمسألة الفلسطينية، ترى رانيا خالق أن ساندرز "كلما طال بقاؤه في الكونجرس وكلما بزغ نجمه السياسي أكثر وأكثر، كلما قلت تصريحاته عن الانتهاكات الإسرائيلية للحقوق الفلسطينية." ربما كان ذلك صحيحاً حتى أشهر قليلة ماضية، حيث غابت القضية الفلسطينية، بشكل شبه تام، عن أحاديث بيرني ساندرز وعن مناظرات الحزب الديموقراطي أيضاً. وذلك في تناقض واضح مع ما يجري في المعسكر المنافس، حيث يتبارى مرشحو الحزب الجمهوري في أيهم أكثر دعماً وموالاةً وولهاً بإسرائيل. ومع ذلك فقد قررت خالق، وهي محررة بالموقع الفلسطيني الانتفاضة الالكترونية، التصويت لصالح بيرني ساندرز في الانتخابات الحالية.
الصمت الذي ران على ساندرز ربما يرجع لعدة أمور منها الاتساع الهائل للدوائر الجماهيرية التي يتصل بها وتغير موقعه على خريطة السياسة الأمريكية فبعد أن كان مجهولاً قضى جل مسيرته السياسية مستقلاً بعيداً عن الأحزاب صار شخصية سياسية بارزة ونداً قوياً لمنافسته هيلاري كلينتون. في آخر 9 جولات انتخابية فاز بيرني ساندرز بـ 8 منها.
هنا تصبح حسابات المكسب والخسارة السياسية ذات تبعات غاية في الأهمية. فالقاعدة الجماهيرية الصلبة لبيرني ساندرز وترسانة حملته الانتخابية هم شباب الألفية وصغار السن. وهذه الفئة العمرية هي الأكثر تعاطفاً مع فلسطين. لذلك يتحسب ساندرز كثيراً لمداخلاته عن القضية الفلسطينية لأنها قد تكلفه الكثير من هذا المنطلق، قدرت بعض وسائل الاعلام أنه من الذكاء إبقاء ساندرز فمه مغلقاً.
ويعتقد أن حرص ساندرز على صورته أمام أنصاره كانت سبباً لتخلفه عن حضور المؤتمر السنوي للجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (ايباك)، أكبر وأقوى منظمات اللوبي الصهيوني داخل الولايات المتحدة. حيث وقع، في مارس 2016، 5280 من أنصاره عريضة تدعوه للامتناع عن الظهور أمام ايباك "التي أقسمت على تسويق الممارسات العنصرية والعسكرية وغير الديموقراطية لأكثر حكومة يمينية في تاريخ اسرائيل." ذلك لا ينفي أن ساندرز عرض ارسال خطاب مسجل بالفيديو، لكن المؤتمر رفض ذلك.
ساندرز الذي تفرد بكونه المرشح الرئاسي الأوحد الذي امتنع عن الظهور أمام ايباك، لم يسجل عليه التاريخ أي ظهور في المسيرات الداعمة لإسرائيل أو على منصات منظمات اللوبي الإسرائيلي.
الخطاب المسجل الذي لم يرى النور أمام ايباك تم نشر محتواه في 21 مارس الماضي على الموقع الرسمي لحملة ساندرز الانتخابية تحت عنوان "الخطوط العريضة لسياسة ساندرز في الشرق الأوسط". وبخلاف العبارات التي أعلن فيها ساندرز دعمه الكامل لحق إسرائيل في البقاء والأمن والدفاع عن نفسها، فقد أعلن أن أمريكا لا يجب أن تكون صديقة فحسب لإسرائيل، بل أن تكون "صديقة للشعب الفلسطيني أيضاً". لم يغفل ساندرز في ورقته تلك "معدلات البطالة في غزة التي بلغت 44%" ومعدلات الفقر المرتفعة هناك. أقر كذلك ان إحلال السلام يعني "تخفيف معاناة الفلسطينيين التي لا يمكن تجاهلها" ويعني "رفع الحصار عن غزة" و"إقرار حق تقرير المصير والحقوق المدنية والاقتصادية للشعب الفلسطيني" و"تفكيك المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية" و"توزيع عادل للمصادر المائية بين فلسطين وإسرائيل" و"انهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية".
ساندرز أعاد تكرار تصوره لطبيعة الدور الأمريكي في العالم حين ذكر أن "الولايات المتحدة ليست شرطي العالم" وأنه يؤمن ان الحلول الدبلوماسية يجب أن يكون لها الأولوية عن ردود الفعل العسكرية.
لك أن تتخيل كيف كان يمكن أن يُلقى خطاباً يحتوي على أفكار ومبادئ كتلك أمام جمهور ايباك الصهيوني اليميني المتطرف الذي لا ترهف آذانه السمع إلى اسم الفلسطينيين الا إذا كان مقترنا بنعتهم بـ "ارهابيين" أو مصحوباً بعبارات "التهديد والوعيد".
بعد أيام، وتحديداً في الأول من أبريل 2016 أجرت صحيفة نيويورك ديلي نيوز، المملوكة لـ مورتيمر زوكيرمان، لقاءً مع بيرني ساندرز اعتبره البعض فخاً كان على المرشح الرئاسي تجنبه. وذلك لأن زوكيرمان هو أحد أدوات اللوبي الإسرائيلي والمحافظين الجدد في الأعلام الأمريكي، وذلك ما أكدته الورقة الأكاديمية الشهيرة "اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية". والحقيقة أن سلوك الجريدة كان متسقاً مع توجهات مالكها، فخرج المقال الرئيسي عن لقاء ساندرز تحت عنوان المخيف بيرني ساندرز: المرشح الديموقراطي خاطئ تماماً في كثير مما يتعلق بإسرائيل. وذلك رغم أن ساندرز أعتبر حركتي المقاومة الفلسطينية "حماس" واللبنانية "حزب الله" حركات إرهابية. ورغم انه رفض الموافقة على لجوء القيادة الفلسطينية إلى المحكمة الجنائية الدولية احتجاجاً على جرائم الحرب الإسرائيلية.
لم تكن اراء ساندرز على هوى الديلي نيوز – اليمينية حتى النخاع – فقد ربط ساندرز تطور العلاقات الأمريكية الإسرائيلية بتحسن العلاقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، كما أدان ممارسات إسرائيل خلال حربها على غزة في 2014 وبخاصة تسويتها لمنازل المدنيين بالأرض وقصفها للمستشفيات والمدارس. الا ان التربص المتعمد به وجد ضالته عندما قدّر ساندرز عدد الشهداء الفلسطينيين خلال تلك الحرب بـ 10,000 قتيل. فانطلقت وسائل الاعلام الموالية لإسرائيل تهاجم بيرني ساندرز بشراسة وتتهمه بتزييف الحقائق، وأصدرت إحدى منظمات اللوبي الإسرائيلي بياناً صحفياً تدعوه لتصحيح موقفه، بل وطالبه سفير إسرائيلي سابق للولايات المتحدة بتقديم اعتذارٍ لإسرائيل. والحقيقة أن ساندرز لم يخطأ، فعدد ضحايا الحرب على غزة من الشهداء والجرحى لم يكن بعيداً، طبقاً لتقديرات الأمم المتحدة، عما قدره.
زوجة بيرني ساندرز وصفت لقاء تلك الجريدة مع زوجها بأنه كان بمثابة محكمة تفتيش. وبعد أيام من الهجوم على ساندرز، في 13 أبريل الجاري، خرجت نفس الصحيفة – نيويورك ديلي نيوز – لتعلن على صفحتها الرئيسية وبكلمات ضخمة دعمها لهيلاري كلينتون في مواجهة اليهودي العجوز.
هل يكون "الرئيس ساندرز" السيناريو الأفضل لفلسطين هذا العام؟
إن تقييم موقف بيرني ساندرز من القضية الفلسطينية لا ينبغي أن يتم بمعزل عن السياق السياسي الأمريكي العام أو عن منافسته وموقفها من ذات القضية ربما كان البعض يتمنى أن يكون بيرني ساندرز أكثر شجاعةً وتعاطفاً مع فلسطين، وربما قارنه كثيرون بزعيم حزب العمال البريطاني جيريمي كوربين ذو التاريخ الطويل في مناصرة الشعب الفلسطيني وحقوقه.
لكن الواقع مختلف، فطبيعة السياسة الأمريكية ذات المكون الإسرائيلي المتنفذ تختلف كثيراً عن نظيرتها البريطانية. فبلاد العم سام تكاد تخلو من أي سياسي بارز يمكن وصفه بأنه "مناصراً للقضية الفلسطينية". هذا هو الوضع الراهن. ومع ذلك، فهناك مؤشرات عدة تفيد بأن فوز ساندرز بالرئاسة – والذي يبقى احتمالاً ضعيفاً – ربما يكون خطوة على طريق تغيير ذلك.
وذلك لعدة أسباب. ربما أهمها أنه بدخول بيرني ساندرز البيت الأبيض، سينخرط في المعترك السياسي الالاف والالاف من النشطاء ومنظمي المجتمع ومسؤولي الحملات من شباب الألفية وصغار السن التواقين إلى تشكيل مستقبل بلادهم والذين حفزتهم وأشعلت حماسهم الانتخابات الحالية. وهذه الفئة الديموغرافية من داعميه، كما ذكر سابقاً، هي الأكثر تعاطفاً والأكثر ميلاً إلى فلسطين. وقد اثبتت التجربة، كما في أوروبا وأميركا اللاتينية، أنه كلما عبرت قطاعات شعبية أكبر وأكبر عن موقفها الداعم للقضية الفلسطينية كلما أجبر ذلك حكوماتها على ألا تغض الطرف عن معاناة الشعب الفلسطيني.
سبب آخر هو أن إسرائيل، في السياسة الأمريكية، لا تمثل فقط موضوعاً للسياسة الخارجية، بل هي في صلب السياسة المحلية، ويرجع ذلك، من بين أسباب أخرى، إلى التأثير الطاغي للوبي الإسرائيلي على الكونجرس والذي يلعب المال السياسي فيه دورٌ بارز. رئاسة ساندرز بشكل غير مباشر، قد تضع قيوداً أكبر أمام هذا المال. فهو من ناحية، قد تعهد بزيادة الضرائب على الكيانات الاقتصادية والمالية العملاقة وعلى طائفة ذوي الثروات المالية الضخمة، وهي الفئة التي ينتمي إليها أغلب داعمي إسرائيل. ومن ناحية أخرى فقد تعهد ساندرز بأنه لن يسمح بأن تُباع الانتخابات وتُشتري وذلك عن طريق فرض قيودٍ هائلة على حركة المال السياسي وتقنين الإجراءات المنظمة لتمويل الحملات الانتخابية.
كذلك فإن أي مقارنة منصفة مع هيلاري كلينتون بخصوص القضية الفلسطينية أو الوطن العربي لن تكون إلا في صالح بيرني ساندرز. ففي الوقت الذي صوّت فيه بيرني ساندرز، في 2002، ضد غزو العراق، صوتت هيلاري لصالح الحرب.
في معرض تعليقها وبينما عارض ساندرز في مجلس النواب مشروع قانون يدعم انشاء جدار الفصل العنصري الإسرائيلي واقتطاعه لأراضي الضفة الغربية في 2004، كانت كلينتون أحد مهندسي تمرير نفس القرار في مجلس الشيوخ. حتى حملة ساندرز الانتخابية ذات أوسع قاعدة من صغار المتبرعين في التاريخ بمتوسط مبلغ 27 دولار للتبرع، متناقضة تماماً مع حملة كلينتون التي تقوم في قوامها على الممولين من داعمي إسرائيل، ومن أبرزهم الصهيوني المتطرف، والمعادي للمسلمين، حاييم سابان.
وبخصوص موقفهما من رئيس الوزراء الإسرائيلي اليميني المتطرف بنيامين نتانياهو، فقد كان بيرني ساندرز أول من أعلن مقاطعته للخطاب الذي ألقاه نتانياهو في الكونجرس في 2015 ضد الاتفاق النووي الإيراني، وفي تصريح لاحق أعلن ساندرز أن نتانياهو لا يروق له وأن خطابه ذلك كان نوع من الانتهازية. أما هيلاري كلينتون، فقد تعهدت بأن دعوة نتانياهو إلى البيت الأبيض ستكون ضمن أول الأمور التي ستقوم بها كرئيسة للولايات المتحدة.
في معرض تعليقها على انتقادات ساندرز لإسرائيل خلال حربها على غزة في 2014، رفضت كلينتون انتقاد إسرائيل وألقت باللوم على حماس، بل وزعمت أن الضحايا المدنيين من الفلسطينيين لم يكونوا سوى مقاتلين تابعين لحماس في تزييف بالغٍ للحقائق. لم تكن تلك التصريحات سوى انعكاس للتاريخ الطويل لكلينتون الذي لم يشهد، في أي مرحلة منه، سوى الانحياز المطلق للاحتلال الإسرائيلي وجرائمه. وذلك ما أكدته أيضاً مجلة صالون التي وصفت خطاب هيلاري أمام مؤتمر ايباك هذا العالم – والذي امتنع ساندرز عن حضوره – بأنه كان خطاباً "مليئاً بالتزييف والهوس بالقوة والدعم الأعمى لإسرائيل والتجاهل الكامل لجرائمها."
على نفس المنوال، وقبل 5 أيام من تصويت ولاية نيويورك – والتي يمثل الصوت اليهودي نسبة معتبرة فيها – لم يكن مستغرباً أن تلتزم كلينتون نفس النهج في المناظرة الكبيرة التي جمعتها مع ساندرز في 14 أبريل الجاري، لكن ما كان مثيراً للدهشة، بحسب مجلة نيويوركر، أن مدى انتباه ساندرز للحقوق الفلسطينية وأخذها بعين الاعتبار كان "خروجاً مُدهشاً عما هو متعارف عليه" في السياسة الأمريكية عن إسرائيل. فقد اعتبرت المجلة، ومعلقين آخرين، أن تحذير بيرني ساندرز من أنه "إذا لم تلعب الولايات المتحدة دور الوسيط النزيه وإذا لم تأخذ في الاعتبار معاناة الشعب الفلسطيني فإنه لن يكون هناك سلام على الإطلاق في الشرق الأوسط" أثبت أنه لا يزال هناك سياسيين يعلنون مبادئهم دون مواربة أو خوف كما أثبت أن السياسة الأمريكية بها الكثير من التابوهات التي يجب أن تتحطم.
هيلاري، والتي يراها كثير من الناخبين غير نزيهة وغير جديرة بالثقة، ربما تكون آخر ما يتمناه المرء للعالم. فالمحافظون الجدد ومهووسو استخدام القوة العسكرية ممن هم على شاكلتها وشاكلة مرشحي الحزب الجمهوري لم يجلبوا للعالم إلا الحروب والكساد والاضطرابات. أما بيرني ساندرز، فقلة خبرته في السياسة الخارجية، كما يرى حميد دباشي، ربما تكون ميزة إضافية له بعيداً عن كل هؤلاء الذين كانوا طرفاً في القضية الفلسطينية وعقلياتهم حبيسة اتفاقيات بالية لم تقدم أي شيء حقيقي للفلسطينيين كأوسلو وغيرها.
وأخيراً.. وصف بيرني ساندرز نفسه بأنه مؤيداً لاسرائيل – وقد صارت عبارة نمطية يكررها كافة الساسة في واشنطون – لا ينفي حقيقة أنه قد أظهر قولاً وفعلاً اقتراباً من القضية الفلسطينية وتقديراً لمعاناة الفلسطينيين يتجاوز بشكل هائل صمت وعجز باراك أوباما الذي ظن البعض، بشكل خاطئ، انه لن يدير ظهره لفلسطين.
في الحقيقة إن ما يفوق المرشح العجوز نفسه أهميةً بالنسبة للقضية الفلسطينية هو حملته الانتخابية. فتلك الحملة الانتخابية المتأججة والتي تجذب العشرات والعشرات من الالاف من الشباب باستمرار، والتي تقف خلف مرشحها "ضد النخبة الحاكمة سياسياً واقتصادياً" إن قُدِّر لها النجاح فأنها من المحتمل أن تساهم في خلخلة وتقويض البيئة السياسية الداخلية الأمريكية الآسنة، وهي البيئة التي نمى فيها "الانحياز لإسرائيل" وترعرع.
في الختام، يظل التغيير الذي يعبأ به أو يتطلع إليه الوطن الفلسطيني ليس تغييراً هناك في البيت الأبيض بل التغيير هنا في العالم العربي.