نلمح وفاءاً عجيبًا في الإسلام لا نلمحه في أي دين آخر؛ بكل الرسالات السماوية السابقة، فنرى كثيراً من تشريعات الإسلام فيها هذا التقدير والوفاء، فالإسلام دين الحنيفية السمحة، نسبة إلى الحنيف إبراهيم عليه السلام، وفي ذلك يقول الله تعالى: ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) "آل عمران: 67″، ويقول تعالى: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ) "الحج: "78، وفي مشاعر الحج نرى معظم أفعاله امتداداً دينيًا لنبي الله إبراهيم عليه السلام، فالطواف حول الكعبة التي بناها نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام.
والسعي بين الصفا والمروة، تذكير بما حدث لابنه إسماعيل وزوجه هاجر، عندما عطشت وابنها ولم تجد ماءًا تسقيه، فسعت سبعة أشواطٍ بين الصفا والمروة، واستنانًا بهذه المرأة الصالحة، كان السعي بين الصفا والمروة ليتذكر المسلمون موقفها، ويستلهموا منه العظة والعبرة.
ورمي الجمرات، والأضحية، هي لون من ألوان الوفاء والشكر لله على نجاة نبي الله إسماعيل، ونجاحه وأبيه في الاختبار، ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) "الصافات": 107.
ولما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسأل عن ذلك، فقالو: ذاك يوم نجَّى الله فيه موسى من فرعون، فقال صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى بموسى منهم". ورأينا القرآن في حديثه عن نبي الله موسى وقومه حديثا مستفيضا، حتى كاد معظم القرآن أن يكون عن موسى عليه السلام وبني إسرائيل.
تقدير الإسلام لعيسى عليه السلام:
ورأينا وفاء وتقدير القرآن لنبي الله عيسى عليه السلام، فلا توجد في القرآن الكريم سورة باسم أم محمد صلى الله عليه وسلم وهو نبي الإسلام، ووجدنا سورة باسم أم المسيح عليه السلام، سورة (مريم)، ولا توجد سورة باسم أسرة محمد صلى الله عليه وسلم (بنو هاشم)، بل وجدت سورة باسم أسرة المسيح سورة (آل عمران).
ويقول صلى الله عليه وسلم عن أحقيته بعيسى عليه السلام: "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة" قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: "الأنبياء إخوة من علاَّت، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد، فليس بيننا نبي".
قال الإمام البغوي: يقال لإخوة بني أب وأم: بنو الأعيان، فإن كانوا الأمهات شتى فهم بنو العلاَّت، فإن كانوا لآباء شتى فهم أخياف، يريد أن أصل دين الأنبياء واحد، وإن كانت شرائعهم مختلفة كما أن أولاد العلاَّت أبوهم واحد، وإن كانت أمهاتهم شتى).
تقدير الإسلام لداود وسليمان عليهما السلام:
وفي حديثه عن نبي الله داود عليه السلام، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ويصوم يوما، ويفطر يوما"، وعن تقديره له من ناحية حبه للعمل، وأكله من عمل يده، فيقول صلى الله عليه وسلم: "ما أكل أحد طعاما قط، خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام، كان يأكل من عمل يده".
ورأينا وفاء النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لنبي الله سليمان، وذلك عندما تعرض له أحد الجن، فأمسك به صلى الله عليه وسلم وربطه في سارية من سواري المسجد، كي يراه الناس إذا أصبحوا، ولكنه تذكر دعوة نبي الله سليمان: (رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) ، وهذه كانت من خصائص نبي الله سليمان، فلم يرد أن يشترك معه في أمر انفرد به، وفاءًا له، وحفظا لمكانته وما اختص به صلى الله عليهما وسلم، يقول صلى الله عليه وسلم: "إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة – أو كلمة نحوها – ليقطع علي الصلاة، فأمكنني الله منه، فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: ( رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي)".
تقدير الإسلام ليونس بن متى عليه السلام:
وعندما ذهب صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يدعو أهلها، وكان ردهم سيئا عليه، بإيذائه وإغراء صبيانهم وسفهائهم به، واعتدوا عليه صلى الله عليه وسلم، فلما رآه عتبة وشيبة ابنا ربيعة وما لقي، تحركت له رحمهما، فدعا غلاماً لهما نصرانيا يقال له: عداس، فقالا: خذ قطفا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له فليأكل منه.
ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال له: كل.
فلما وضع صلى الله عليه وسلم فيه يده قال: "بسم الله" ثم أكل.
فنظر عدَّاس في وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن أي البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟".
قال: نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى.
فقال له صلى الله عليه وسلم: "من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟".
فقال عدَّاس: وما يدريك ما يونس بن متى؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك أخي، وكان نبيا، وأنا نبي"، فأكب عداس على النبي صلى الله عليه وسلم فقبل رأسه ويديه".
وقد ترسخت هذه الثقافة عند المسلمين كذلك في سلوكهم وحياتهم، فنرى المسلمين يسمون أبناءهم بأسماء الأنبياء والمرسلين حبا وتبركا، وتيمنا بهم، بنفس الحب الذي يكنونه لنبيهم صلى الله عليه وسلم، فنرى المسلمين يسمون أبناءهم: موسى، وإبراهيم، وسليمان، وداود، ويعقوب، وإسحق، وكلهم من أنبياء بني إسرائيل، بل نجد المسلمين ينفردون عن أتباع كل الديانات، فيسمون أبناءهم باسم (عيسى) رغم أن المسيحيين أنفسهم وهم أتباعه، لا يسمون أبناءهم باسمه.
ويسمي المسلمون بناتهن بأسماء: مريم، وهاجر، وسارة، جنبا إلى جنب مع أسماء أمهات المؤمنين زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم: خديجة، وعائشة، وميمونة، وغيرهن، حبا في أمهات الأنبياء والمرسلين، وتقديراً وتبركاً عَلَّ أن تقتبس بناتهن من أخلاق وصفات هؤلاء النسوة الطاهرات الصالحات.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.