أمرُ الله

"مبارك، المدام حامل منذ شهر"، بهذه القنبلة خرجا من المختبر معًا، وفورًا عاد شريط الذاكرة بأسامة إلى شهر مضى إلى دعاء تلك العجوز التي بدا أنها أحد أولياء الله الأخفياء.

عربي بوست
تم النشر: 2016/04/23 الساعة 04:26 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/04/23 الساعة 04:26 بتوقيت غرينتش

في الغرفة رقم (3) صادفته عجوزٌ، وطلبت منه أن يعاين حفيدها المريض، اعتذر إليها الدكتور أسامة لطارئ قاهر وحولّها إلى زميل آخر، أخذت ترجوه: "منشاني يا دكتور، الله يعلّي شانك"، أجابها بابتسامةٍ تشبه الماء: "لأجل دعائك الجميل سأفعل"، رفعت العجوز يديها باتجاه السماء وقالت بصدق عميق: "روح يا دكتور أسامة، إلهي ربنا يرزقك بالولد الصالح"، تنهدت "آهُه" و تكدّرت على إثرها ملامحه، ومع ذلك لم تسحب المرأة ابتسامتها التي تجاوزت مستوى الثقة إلى مستوى اليقين وهي تقول: "لا عليك، دعائي بإذن الله سيُجاب".

كان بانتظار ذلك الطبيب عام ألفين منعطف شاهق مرّ به حين عُرض عليه العمل في مستشفى الدرة للأطفال في قطاع غزة، وهو المحروم نعمة الإنجاب سنوات طويلة.

خمنوا ماذا فعل، كان جوابه الأول للمدير: "بالله عليك أبعدني عن موضوع الأطفال، إنه حساسٌ جدًّا لي"، هو بهذا الرفض المتعقّل أراد الهروب مما يجرح زوجته، إلا أن القدر ومن حيث لا يدري دفعه دفعًا فوافق.

في حكاية الدكتور أسامة الريفي تكاد عينك لا ترمش أمام منعطفاتها القدرية التي قالت الكلمة الأولى والأخيرة؛ فقبل سنواتٍ طويلة تزوّج من "سفيتلانا" تلك الجميلة المهذبة "الروسيّة الجنسية" في أثناء دراسته الطب ببلادها، عاشا معًا عمر الدراسة لا شيء يعكر صفو حبهما إلا أن الإنجاب تأخّر، كل الفحوصات كانت تؤكد أنه لا مشكلة لدى أيٍّ منهما، ولكنه "أمر الله" كما يحلو لدكتور أسامة أن يسمّيه.

ولأن غريزة الأمومة هي عشق النساء الذي لا يقبل التأجيل كان نسيم طمأنينته يهبّ على حزنها فيبددّه، وبقي الحال هكذا حتى قررا العودة إلى غزة حيث أخذت "سفيتلانا" تفطن إلى المفردات العربية، وصارت تدرك الغمز واللمز بشأن تأخر إنجابهما.

كان قلبها يتفطّر حزنًا، لما تسمع برغبة أهله في أن يكون لزوجها ابن يملأ عليه دنياه.

مرّ وقت، وانقسمت العائلة إلى فريقين في مسألة أن يجرب أسامة حظه بالزواج من أخرى، فوقف معلنًا بكل صراحة: "هذا شأني الخاص، وأنا راضٍ بـ"قسمتي ونصيبي"، أتوسل إليكم ألا تتدخلوا".

مضت سنوات لم يفكر فيها أسامة برهة بالانسحاب من عالم الأطفال حتى في ذروة ألمه، تراك لو كنت مكانه أتستمر أم تنسحب؟، كيف تتصرف وأنت في كل لحظة تتمزق بين واجبك المهني الذي قدر لك أن يكون في صميم ما تفتقده من جانب، ومن جانب آخر داخلك الذي يتحرق شوقًا إلى أن تحمل بين يديك ولدًا من صلبك؟
إلى مستشفى الدرة كان الدكتور أسامة لا يذهب إلا وجيوبه امتلأت بقطع الحلوى التي منها بدأ يخلق لغة تواصل بينه وبين أي طفل يداويه، إنها لغة الأمان كما يسميها، فيبادر إلى الإمساك بيده واللهو بشعره والحديث إليه ببراءةٍ ما أبرأها!، وفي مدةٍ وجيزة صار ذلك المستشفى كل عائلته وحياته.

مرت ثلاثة عشر عامًا على زواجهما إلى أن جاء يومٌ وحدث ما لم يكن في الحسبان، بعد شهرٍ فقط على دعاء تلك العجوز (هل تذكرونها؟) رن هاتف دكتور أسامة؛ فكان "على الخط" الممرضة التي تعمل مع الدكتورة سفيتلانا، تبلغه أن زوجته أغمي عليها،
توقع أن يكون ضغطها قد انخفض، ووضع عدة احتمالاتٍ أخرى لم يكن من ضمنها اقتراح الممرضة: "جرب أن تجري لها تحليل حمل".

قَرَرا الذهاب إلى مختبر في شارع فهمي بيك الشهير وسط مدينة غزة، كانا يقدمان ساقًا ويؤخران أخرى، طلبت منه سفيتلانا أن يلقي "تحليل البول" خاصتها في الحاوية، لقد خشيت أن يجهز عليهما أملٌ كاذب، فكاد أن يفعل لولا أن حسمت هي الأمر: "طيب خلينا نجرب".

"مبارك، المدام حامل منذ شهر"، بهذه القنبلة خرجا من المختبر معًا، وفورًا عاد شريط الذاكرة بأسامة إلى شهر مضى إلى دعاء تلك العجوز التي بدا أنها أحد أولياء الله الأخفياء.

امتلأت عيونهما بالدموع، وحمدا الله كثيرًا كثيرًا، وقالاها بصوت واحد: "وكان أمر الله قدرًا مقدورًا".

وفي غمرة فرحته أول ما فكر به مهاتفة زميلٍ له، وهو طبيبٌ تزوج منذ سنوات ولم يقدرّ له الإنجاب، كان صوته يرقص طربًا وهو يقول: "سفيتلانا حامل، إياك أن تفقد الأمل، "فاهم"؟، وتذكر: إن أعطى الله أدهش"، تخيلوا أن رفيقه هذا بعد أسابيع قليلة حملت زوجته، هكذا هو "الأمل في وجه الله" حين تنتقل عدواه يتكاثر.
إنه لا يعرف أي أعماله شفعت له عند ربه: نيةٌ بلون اللبن السائغ أم وجه طلق يحب مساعدة الضعفاء بمنتهى التبسّط.

إنه حقًّا "أمر الله" اللازمة المفضلة لـــ"صاحبنا" الذي اختار لابنته اسمًا روسِيًّا أحبه، وهو "ميلانة"، ويذكر تاريخ حمل "سفيتلانا" أن أسامة كان يمسح برفق على بطنها قائلًا: "ستملأ علينا البيت، وإياكِ أن تغضبي منها لو كسرت شيئًا، ستحدث كل الأشياء الصغيرة الجميلة التي كنا نرى الأطفال يفعلونها مع آبائهم".

في يوم ميلاد "ميلانة" أراد الله أن يقرّ عين أبيها بترتيبٍ إلهي آخر، فقد كان يعمل على بند البطالة في السنوات الأربع الأخيرة التي سبقت ميلادها، فإذا خبر "التثبيت الوظيفي" يأتيه عندما أُدخلت زوجته إلى غرفة العمليات.

تلك الفراشةُ التي تتقافز الآن بسن اثني عشر ربيعًا مكثت ثلاثة أسابيع في "حضانة المواليد"، وأبوها الخلوق جالسٌ إلى جوارها يضع "سبّابته" في يدها الصغيرة وهي تطبق عليها بإحكام، وصوته الخافت يردد: "شيئان لا تفقديهما في رحلة الحياة _يا صغيرتي_: الأمل والإرادة".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد