أرض النزال

وأما المستقبل فلا تجعله بخيالك شتاءً عاصفاً ولا صيفاً حارقاً، فوازن بين هذا وذاك، فتحلَّى بكافة الاحتمالات بِدءاً من الأشد سوءاً للأكثر خيراً لكي لا تخرّ متعباً من إثر الصاعقة حينما يأتيك الأسوأ دون تنبؤ منك.

عربي بوست
تم النشر: 2016/04/23 الساعة 04:26 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/04/23 الساعة 04:26 بتوقيت غرينتش

من وقتٍ لآخر تعتريك الذكريات الهائجة على ضفاف حاضرك المستكين وتأبى الرحيل عن ذلك الميناء القابع في ضواحي مدينتك، حاولت جاهدًا أن تُبعدها عنه لكن لا طائل من محاولاتك، وكأن أمواج البحر سَكَنَت ورفضت التحرُّك لكي لا تأخذها بعيدًا عنك، وكأن حجارة الوادي جميعها على ضفافك قد اجتمعت كي تحاوط تلك السفينة المليئة بالذكريات حيثما هي، وكأن الدنيا بأسرها أجمعت أن تَشُد بأزر تلك السفينة في مواجهتك ولِمَ لا؟!

والنفس بداخلك أحياناً تتخلَّى عنك وتقف بجوارها، والدمع يتمرَّد على طاعتك امتثالًا لأوامرها، وذاك الوجه الباسم يغشى عليه ميتاً من طعناتها، والقلب لا يُحرَّك ساكناً بين هؤلاء كمن هدَّهُ الإعياء منها ففقد السيطرة على نفسه، وبينما أنت بداخل كل هذا المعترك يكون العقل هائماً في بحر آخر مثالي يرتّب فيه الأفكار، ويطرد كل ما هو مُزعج، ويعقد الهمم لحاضر أفضل، ويدرس خططه المستقبلية الباهرة، على أمل أنك ستتحوَّل في يومٍ ما إلى كائنٍ خارق تدَّعي الكمال، وكأنه تبرَّأ منك، أو إن شئت كلاكما تبرَّأ من الآخر ولا تدري لِمَ؟!

قُل لي إذن هل تُعجبك أرض النزال تلك؟ إلى أي الأطراف ستنحاز؟ هل إلى السنين التي التهمها قطار الزمن، أم إلى محطات من العُمر لم يحن قدومها بعد، أم ستتنحى عنهما وتنظر إلى عقرب ساعتك الحالية؟ أنا على يقين تام بأنك لا تملك إجابة محدَّدة.

ففي الماضي تسكن شموع مضيئة تُنير الدرب إلى أن وصلت لما أنت عليه، وهناك سنون مطفأة وانقلب بها النهار سرمداً ساكناً لا حياة فيه، فإذا اخترته سيتحتَّم عليك أن تختار ضحكاتك العالية ودموعك المنهمرة في آنٍ واحد، فهو حينما يزورك يأتيك ككل فالزمان خيط يا عزيزي يشد بعضه بعضاً سواءً أكان فرحاً أم ألماً، فعليك أن تدرك جيداً كيف تتعامل مع ذلك إن اخترته قدَّرت اختياره.

أما إذا انتقلت بعقلك للتنبؤ بمحطات مُشرفة على القدوم في الغد فعليك أيضاً أن تتحلى بقواعدها، فتعلم أن بها الجيد والسيئ، فلا الطريق دائماً سيكون ممهداً للسير، وأيضاً لن يكون سواداً مقتماً، على مرمى البصر دوماً كأن الأنوار انزاحت من الوجود، فلا يوجد يا عزيزي في الحياة قانون الـ100%، فإنها نسبة زائفة غير منطقية هوجاء التصرُّف بك إن صدَّقتها يوماً، فعليك أن تدرك كافة الاحتمالات الممكنة على الدرب إن أشرفت على اختيار تلك المحطات القادمة، فاحذر.

أما إن ثَبُتَ عقلك عند عقارب تلك الساعة الصمَّاء القاتلة على جدران مدينتك فاعلم أن تلك المدينة ستصبح كما هي عليه كغرفة في الطابق الأخير لفنار عالٍ مهجور مستوطن في بحر لا يعلم أحد مكانه ولا هويَّة بانيه.

قُل لي إذن إلى أي مدى تميل إلى أحد تلك الأطراف الثلاثة في هذا النزال الدَّامي الأفكار؟ الإجابة قطعياً ستُشير إلى جميعهم، فلا يمكنك أن تتبرَّأ من أي منهم، ولكن بقواعد المعارك لابد من رابح! لذا دعنا نصوغ القواعد من جهة أخرى، من جهتك أنت.

أرض النزال هي مدينتك وعالمك أنت وحدك، والماضي والحاضر والمستقبل هم أبناؤك من صُلبك، ونَشأت بينهم تلك المعركة الدامية على ساحتك، فهل من المعقول أن تدعهم ليُعيدوا قضية بداية الزمان بين الأخوين قابيل وهابيل؟! هل من المعقول أن تجور على حق أحدٍ منهم على حساب الآخر؟! والإجابة قطعاً "لا"، ولذلك وجب عليك التحلَّي بسمات الأب الناصح الحكيم الذي يجمع شمل أبنائه كي يُصلح ما فسد بهم وأفسد ما بينهم على ساحتك.

فذاك الماضي يجب عليك أن تُهذّبه للإتيان بما كان خيراً لكي تسعد وقت حُزنك ويأتي بما كان شرَّاً وبلاءً وقت فرحك لكي تأخذ الحذر جيداً كي لا يتكرَّر، فتلعب دور الناصح الأمين لا الناهي لأن كلاهما سيأتيك لا محالة لكن كيفية ووقت الإتيان تعود إليك وإلى مقدرتك على التحكّم به.

وأما المستقبل فلا تجعله بخيالك شتاءً عاصفاً ولا صيفاً حارقاً، فوازن بين هذا وذاك، فتحلَّى بكافة الاحتمالات بِدءاً من الأشد سوءاً للأكثر خيراً لكي لا تخرّ متعباً من إثر الصاعقة حينما يأتيك الأسوأ دون تنبؤ منك.

أما الحاضر فلا تقف عنده عاجزاً وتترك هذا العقرب يسلبك وقتك لخوفك منه، فاجعل هذا الحاضر جسر عبور آمن بين الماضي والمستقبل، ترتّب فيه الأمور، توازن فيه الحياة، تعيد حساب أولوياتك وأهدافك، تُقيِّم به ما قمت به، فلا تجعله عائقاً لك ينتقل معك طوال الطريق.

وفي النهاية أقول: هذه مدينتك فأحسن بناءها وتعميرها بكل ما هو خير، كما أمرك الله – عز وجل – فلا تسلَّمها في نهايتك كأرض خاوية على عروشها.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد