هل نقتلهم باسم الله؟”3″ | موقف الإسلام ممن لا يعلم بتحريف دينه

إذا كان بعض أهل الكتاب قد حرفوا بعض الكتاب، وفيهم آخرون لم يعلموا ذلك، فهم مجتهدون في اتباع ما جاء به الرسول، لم يجب أن يجعل هؤلاء من المستوجبين للوعيد.

عربي بوست
تم النشر: 2016/04/16 الساعة 01:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/04/16 الساعة 01:41 بتوقيت غرينتش

أوضحنا في مقالينا السابقين موقف الإسلام من الاختلاف الديني، وأن هذا الاختلاف أمر قدري، لا يملك أحد إلغاءه، وأن الدنيا دار عمل ليست دار حساب، كي يقوم أحد بمجازاة الناس، أو محاسبتها على موقفها الديني إيماناً كان أو كفراً، وأن من لم تبلغه دعوة الإسلام صحيحة صريحة فلا عقاب له في الآخرة، فضلاً عن أن يعاقبه أحد في الدنيا، فما موقف الإسلام ممن اتبع ديناً سماويًّا، يحكم الإسلام بتحريف كتابه، وهو لا يعلم ذلك، أو لم يصل لهذه القناعة، وما موقف الإسلام من التعامل معه من حيث الحب والبغض، وحماية دار العبادة التي يتعبد فيها غير المسلم؟

المسيحي أو اليهودي الذي لا يعلم بتحريف كتابه:

إذا كنا قد علمنا أن من لم يبلغه الإسلام صحيحاً هو من أهل المعذرة، فالحالة الأهم التي من المهم نقاشها الآن هي:
أننا كمسلمين نؤمن بأن كتب أهل الكتاب من المسيحيين واليهود قد طالتها يد التحريف، فما حكم المسيحي أو اليهودي الذي لا يعلم بأن كتبه أو ديانته قد حرفت؟

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن أهل الكتاب وتحريفهم لكتابهم، وبيان الموقف ممن قلد ولم يعرف بهذا التحريف، أو من اجتهد في الوصول للحق، فعجز عنه: (فمن بلغه بعض القرآن دون بعض: قامت عليه الحجة بما بلغه دون ما لم يبلغه، فإذا اشتبه معنى بعض الآيات، وتنازع الناس في تأويل الآية وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله، فإذا اجتهد الناس في فهم ما أراده الرسول -صلى الله عليه وسلم- فالمصيب له أجران، والمخطئ له أجر، فلا يمنع أن يقال ذلك في أهل الكتاب قبلنا، فمن لم يبلغه جميع نصوص الكتاب قبلنا لم تقم عليه الحجة إلا بما بلغه، وما خفي عليهم معناه منه فاجتهد في معرفته، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، وخطأه محطوط عنه، فأما من تعمد تحريف الكتاب؛ لفظه، أو معناه، وعرف ما جاء به الرسول فعانده، فهذا مستحق للعقاب، وكذلك من فرط في طلب الحق واتباعه، متبعاً لهواه، مشتغلاً عن ذلك بدنياه.

وعلى هذا، فإذا كان بعض أهل الكتاب قد حرفوا بعض الكتاب، وفيهم آخرون لم يعلموا ذلك، فهم مجتهدون في اتباع ما جاء به الرسول، لم يجب أن يجعل هؤلاء من المستوجبين للوعيد.

وإذا جاز أن يكون في أهل الكتاب من لم يعرف جميع ما جاء به المسيح، بل خفي عليه بعض ما جاء به، أو بعض معانيه، فاجتهد لم يعاقب على ما لم يبلغه، وقد تحمل أخبار اليهود الذين كانوا مع (تبع)، والذين كانوا ينتظرون الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم- من أهل المدينة، كابن التيهان وغيره على هذا، وأنهم لم يكونوا مكذبين للمسيح تكذيب غيرهم من اليهود).

وهذا نص مهم لابن تيمية يلتمس فيه العذر لمن اجتهد في الوصول إلى الحق فعجز عنه، بسبب أنه لا يعلم بتحريف كتابه، لأن ما لديه ليس كل ما وصله عن الله ورسله.

حماية الأديان ودورها واجب إسلامي:

كما أن المسلم يحيا في أي موطن كان، ومن أهداف تمكنه في الحياة: حماية دور العبادة لدى الآخرين، وحماية حرياتهم الدينية، يقول تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً) الحج: 40.

فالآية الكريمة تبين أن من سنن الله في الكون: تدافع الناس، فهناك في كل زمان ومكان فئة تدافع عن الحق، وتدفع عنه الباطل، ولولا وجود هذه الفئة (لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد)، ونلحظ أن الآية ذكرت دور العبادة لجميع الأديان، وجعلتها مكاناً لذكر الله كثيراً، وهو معنى مهم ينبغي أن نلفت إليه، وأن المسلم عندما يجاهد ويدفع الشر، يفعل ذلك حماية لدور العبادة لجميع الأديان، ولا يكون طرفاً في الاعتداء عليها، بل يكون الدرع الحامي لها.

وقال ابن خويز منداد من أئمة المالكية (من أهل أواخر القرن الرابع): (تضمنت هذه الآية المنع من هدم كنائس أهل الذمة وبيعهم وبيوت نارهم).

وهو ما قال به الإمام الليث، وعبد الله بن لهيعة المصريان، والإمام الليث بن سعد الذي يعد من أئمة المذاهب لا يقل علما عن مالك وأبي حنيفة، وعاصر مالك، وكان بينهما مراسلات، والآخر ابن لهيعة، وهو عالم محدث مصري، فقد كان رأيهما في بناء الكنائس من أنضج الآراء، إذ يقولا: إن بناء كنائس النصارى، هو داخل في عمارة دار الإسلام. وهو ما مال إليه أيضاً: الإمام ابن القاسم المالكي.

لا توجد عداوة أبدية:

كما أن القرآن الكريم يبين أن المخالف في الدين ليس عدوًّا، إنما العدو هو المحارب فقط، وحتى هذا العدو المحارب عداوته ليست أبدية، فقد يكون عدو اليوم مسالماً غداً، فلا يصير عدوًّا، وقد يمارس الإنسان المسلم معه واجب الدعوة إلى الله فيتحول من عدو محارب، إلى مسالم مهادن، أو من كافر إلى مسلم، فيصبح حبيباً بعد أن كان عدوًّا، يقول تعالى: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً، وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ، وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الممتحنة: 7-9.

يقول الأستاذ سيد قطب

(إن الإسلام دين سلام، وعقيدة حب، ونظام يستهدف أن يظلل العالم كله بظله، وأن يقيم فيه منهجه، وأن يجمع الناس تحت لواء الله إخوة متعارفين متحابين. وليس هنالك من عائق يحول دون اتجاهه هذا إلا عدوان أعدائه عليه وعلى أهله. فأما إذا سالموهم فليس الإسلام براغب في الخصومة ولا متطوع بها كذلك! وهو حتى في حالة الخصومة يستبقي أسباب الود في النفوس بنظافة السلوك وعدالة المعاملة، انتظاراً لليوم الذي يقتنع فيه خصومه بأن الخير في أن ينضووا تحت لوائه الرفيع. ولا ييأس الإسلام من هذا اليوم الذي تستقيم فيه النفوس، فتتجه هذا الاتجاه المستقيم.

وفي الآية الأولى من هذا المقطع؛ إشارة إلى هذا الرجاء الذي لا يغلب عليه اليأس في معرض التخفيف على نفوس بعض المهاجرين، وتغذية قلوبهم المتعبة بمشقة المقاطعة والحرب للأهل والعشيرة: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً)..

وهذا الرجاء من الله، معناه القطع بتحققه. والمؤمنون الذين سمعوه لا بد قد أيقنوا به، ولقد وقع بعد هذا بوقت قصير أن فتحت مكة، وأن أسلمت قريش، وأن وقف الجميع تحت لواء واحد، وأن طويت الثارات والمواجد، وأن عاد الجميع إخوة مؤتلفي القلوب.

(وَاللَّهُ قَدِيرٌ).. يفعل ما يريد بلا معقب. (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).. يغفر ما سلف من الشرك والذنوب..

وإلى أن يتحقق وعد الله الذي دل عليه لفظ الرجاء رخص الله لهم في موادة من لم يقاتلوهم في الدين ولم يخرجوهم من ديارهم. ورفع عنهم الحرج في أن يبروهم، وأن يتحروا العدل في معاملاتهم معهم فلا يبخسونهم من حقوقهم شيئاً. ولكنه نهى أشد النهي عن الولاء لمن قاتلوهم في الدين وأخرجوهم من ديارهم وساعدوا على إخراجهم. وحكم على الذين يتولونهم بأنهم هم الظالمون).

وهو ما تم في العهد النبوي، فقد أسلم من كانوا أعداء للإسلام ونبيه وصحابته، ورأينا من الكفار من مسلمين صحابة، ثم صاروا مؤمنين إخوة في الإيمان، فرأينا وحشيًّا قاتل الحمزة يسلم، كما أسلم مشركون كثر رفعوا السيف في وجه الإسلام، ولكن جاء اليوم الذي اقتنعوا فيه بالإسلام، عندما شرحت صدورهم للإسلام، بالحب لا العداء وروح الانتقام.

مصادر:

انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (2/294،293) طبعة دار العاصمة ـ السعودية.
انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور (17/279).
انظر: تاريخ مصر وولاتها للكندي ص131. نقلا عن: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري للمستشرق الألماني آدم متز ص69.
انظر: أحكام الذميين والمستأمنين للدكتور عبد الكريم زيدان ص 82-85.
انظر: في ظلال القرآن لسيد قطب (6/3544،3543).

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد