أعرف أن كثيرين قد استفزهم العنوان.. فكيف يقال عن الشخص "العاطفي.. الحساس" إنه شخصية صعبة؟
دعني أبدأ بتوضيح ما أقصده.. فلان يغضب وإذا غضب "ميعرفش أبوه".. فيقال "معلش أصله على طبيعته.. اللي في قلبه على لسانه.. "فلان عصبي.. فيقال معلش "بس قلبه أبيض".. فلانة تتكلم بما يجرح الآخرين.. يقال " معلش أصلها على نياتها.. مش قصدها".. صديقتك فلانة لا تكلمك وتتجاهلك ولا تعرفي السبب ثم يتضح أنه أمر تافه وشيء لم تقصديه ويقال لك "معلش أصلها حساسة شوية".. ألا نبرر كل هذه السلوكيات السلبية بأن أصحابها عاطفيين وحساسين؟!
منذ عدة أسابيع قرأتُ تعليقاً على تدوينتي "عن الأقلية المتهمة بالإنطواء والخجل".. قالت صاحبته : " أنا عارفة الناس السوسة دول، اللي بيعملوا كل حاجة بالتخطيط ولهدف".. وكلما تذكرت تعليقها أبتسم..
التعليق يعكس فهماً شائعاً يفترض أن العلاقة بين العاطفة والعقل علاقة تنافر وتضاد.. فمن يندفع وراء مشاعره ويكون كريشة في مهب الريح "إنسان عاطفي وحساس وطيب".. ومن يحكِّم عقله في مشاعره "سوسة"! هل فعلاً استخدام العقل في إدارة المشاعر إقحام له في منطقة لا تخصه؟
أتذكر أني شاهدت فيلماً تسجيليًّا قصير عن الفِيَلَة.. وفي أحد المشاهد سقط صغير منهم في حفرة طينية.. حاولتْ الأم مساعدته ولم تستطع.. فسارت مبتعدة لتلحق بالقطيع وهي تتلفت وراءها.. ثم عادت إليه.. وحاولت إخراجه وفشلت فغادرته وهي تتلفت وراءها.. ثم عادت مرة ثالثة لإنقاذه وفشلت.. وفي هذه المرة رحلت ولم تلتفت وراءها قط!.. لديها رحمة.. ولديها الرغبة الجادة في المساعدة.. وحاولت أكثر من مرة.. وعندما أدركت أنه لا فائدة وأن الجهد ضائع.. انصرفت.. ولم تنظر خلفها.. فهل نستطيع أن نفعل مثلها فنطوي صفحة ما تَيَقَّنَّا أن لا فائدة من ورائه ونمضي بلا التفات؟
هل يمكن أن نستمع إلى مشاعرنا ونتحرك وفقها، وفي ذات الوقت لا نتخلى عن صوت العقل؟ أليس من العجيب أن الحيوانات تعرف ذلك بالفطرة وتفعله بينما نتفنن نحن في الفصل بين العاطفة والعقل لنبرر حرائق نصنعها ونغذيها بأيدينا؟!
يروق لنا أن نمدح أنفسنا بأننا شعوب عاطفية، وأن الشعوب الأخرى باردة لا تعرف المشاعر.. فهل فعلاً نحن متميزون عاطفيًّا؟ هل ننصت لمشاعرنا؟ هل نفهمها جيداً؟ هل نعرف كيف نديرها؟ هل نعرف كيف نتصرف وفق هذه المشاعر؟
الصورة لمنشور على فيسبوك لاقى استحساناً كبيراً.. ولا أعرف هل كل من أبدى إعجابه بالمنشور يعرف تفاصيل القصة أم لا.. بإيجاز شديد.. عرف جبران تسعة نساء -وربما أخريات لم يكتب عنهن- ولم يتزوج أياً منهن.. الأولى وهو مراهق وكانت تكبره في السن وكانت تخون زوجها معه.. وثانية كانت تكبره في السن وتنفق على دراسته وعلى إقامته في باريس لسنوات طويلة، وأتاحت له رفاهية أن يتفرغ للكتابة ولها الفضل في أن يكتب بالإنجليزية.. وثالثة كانت عشيقة مقيمة معه وتركته بعد أن رفض الزواج بها.. وأخرى صنفت كملهمة لكتاباته.. وعشيقات أخريات.. إلخ.
وكانت مي إحداهن.. ومن الجدير بالذكر أن مي هي من صرّحت له بالحب دون مبادرة منه.. ولم يُخفِ عنها دَهْشَتَه.. ثم لم يمانع في التجاوب معها -فالبحر يحب الزيادة كما نعلم جميعاً- وطلب منها القدوم إلى الولايات المتحدة الأميركية حيث يقيم لتعيش معه.. "فغضبت" منه ثم عادت "واعتذرت"!.. ومضت العلاقة الوهمية -في رأيي- بينهما سنوات من خلال رسائل متبادلة وقامت مي طوال هذه السنوات بدور مديرة أعمال لجبران بلا أجر.. فهي المتحدثة باسمه في المحافل.. تحضر الندوات لتقرأ خطبه وأشعاره وتتسلم الجوائز نيابة عنه.. إلخ ومن الجهة الأخرى كان حولها الكتير من الأدباء والمشاهير الراغبون في ودها، ولكنها لم تتجاوب مع أي منهم.. هذه هي القصة باختصار شديد.. لا أعرف عزيزي القارئ ما رأيك الآن في قصة الحب "العظيمة" مضرب الأمثال؟!
من وجهة نظري لا شيء يستحق الإعجاب في قصة مي وجبران.. ومن باب الفهم المشوش والتدليس الصارخ أن ينظر لها بأنها "الحب النموذجي مضرب الأمثال".. وبصراحة لا أرى أي وجه "للحلاوة" في القصة؟!
ويجدر الإشارة إلى أن الكتابات الغربية التي تناولت حياة جبران لم "تُصنف" مي من ضمن عشيقاته أو حبيباته.. ربما لأنهم أدق في تعريف الحب والمشاعر.. بينما نميل نحن إلى العشوائية وخلط الأمور.. وربما أحياناً نتوهمها ونخلق هالات كاذبة لقصص مشوهة ونحتفي بها!
ننسى أن الحب ليس غاية في حد ذاته.. هو شعور يدفعنا ويحرك فينا الرغبة في الارتباط بشخص بعينه ليتحقق ما خُلق الإنسان لأجله.. إعمار الأرض.. وهو ما يمنح الإنسان الحافز ليتخلى عن حريته ويتحمل عبء وتبعات أن يشارك آخر عمره.. وبأن العلاقات الناجحة الجديرة بالتقدير هي التي تكون مثالاً يحتذى، ليست التي تستمر سنوات طويلة.. لكن التي تمنحنا فرصة أن نكون أفضل.. التي تخرج من داخلنا أفضل ما فينا.. التي تمنحنا مزيداً من الأمان والسعادة والسلام النفسي.. والعلاقات الفاشلة التي يجب التخلص منها هي المفتقرة عن ما سبق..
المشاعر بكافة أنواعها حتى السلبي منها هي مجرد أدوات ندير بها علاقاتنا بالآخرين.. ودورها الحقيقي أن توجه تصرفاتنا..
نعاني أمية عاطفية.. فقد تربينا على أن نكبت مشاعرنا ولا نلتفت لها أو ننكرها خاصة السلبي منها.. نظن أن هناك مفتاحاً سحريًّا يمكن أن نضغط عليه فتنتهي نوبة الغضب.. أو نكف عن القلق.. نتربى على أن ننسى تلك المشاعر ونتجاهلها وسيكون بعدها كل شيء على ما يرام.. والحقيقة أن ما ننكره يكبر بداخلنا ويتوحش!
منذ سنوات قليلة حضرت برنامج تدريبي في الولايات المتحدة الأميركية، وكان جزءاً منه تدريب لتنمية مهارات الذكاء العاطفي Emotional Intelligence وهو مصطلح حديث نسبياً ظهر منذ عشر سنوات..
الذكاء العاطفي يقصد به مدى قدرة الإنسان على فهم وإدارة مشاعره وعلاقاته بالآخرين بنجاح.. ومنها معرفة شعوره وما السبب فيه؟.. وترجمة لغة الجسد.. وما تعنيه تعبيرات الوجه.. وتفسير تصرفات الآخرين وفهم مشاعرهم.. إلخ.
وبرغم حصولي على درجة مرتفعة في اختبار تحديد المستوى السابق للتدريب.. إلا أنها من أكثر الدورات التي تعلمت منها وكانت مبهرة جداً.. واكتشفت فيها لأول مرة أننا لا نحسن تسمية مشاعرنا وفهمها ناهيك عن إدارتها..
دعنا نتأمل مثلاً شعور الغضب في مواقف من الحياة اليومية.. تعترضك سيارة تسير في اتجاه عكسي.. فتغضب.. ينسى زوجك يوم عيد ميلادك.. فتغضبين.. يرفع ابنك صوته عليك.. فتغضب.. لماذا نغضب؟
نغضب عندما تكون هناك فجوة بين ما يحدث في الواقع وبين ما نتوقعه ونرسمه كصورة "مثالية" والتي غالباً ما تكون غير واقعية
.. لم يتوقع قائد السيارة أن يجد أخرى في الاتجاه العكسي.. لم تتوقع الزوجة أن ينسى زوجها عيد ميلادها.. لم يتوقع الأب أن يرفع ابنه صوته عليه..
وبهذا الفهم لمعنى الغضب وبإدراك أنه قد لا يمكننا أن نغير الواقع.. لكن يمكننا أن نغير الصورة الذهنية في رؤوسنا.. نجتهد لنكون أكثر واقعية.. نتقبل أنه وارد جدًّا أن تفاجئنا سيارة في الاتجاه العكسي.. وارد أن ينسى زوجك عيد ميلادك.. وارد أن يرفع ابنك صوته عليك.. وبناء على تلك التوقعات تُقَرِّرُ مقدماً ماذا ستفعل لتجنب ذلك.. أو ماذا ستفعل عندما يحدث ذلك..
الوحدة
هو شعور نُعرّفه بسذاجة على أن مبعثه أن يكون الإنسان وحيداً.. فإذا كان ذلك صحيحاً ماذا عن المشاهير الذين يلتف حولهم الناس بالآلاف، ومع ذلك يشكون من الوحدة؟ ماذا عن ابن مدلل في عائلة سعيدة مع أبويه وإخوته، ومع ذلك يشعر بالوحدة؟ ماذا عن سيدة مع زوج محب وأبناء صالحين ومع ذلك تشعر بالوحدة؟
الوحدة في الحقيقة هي فجوة بداخلنا تتسع عندما نبالغ في منح من حولنا ولا نأخذ ما يكفي بالمقابل.. هي فجوة طاقة.. باختصار الطاقة الخارجة منك إلى العالم أكثر من الطاقة الداخلة المغذية لروحك!
عندما ينتابنا هذا الشعور نحتاج لأن "نشحن" أنفسنا.. نحتاج أن يمنحنا من نحبهم ما يعوضنا.. تحتاج أن تدلل نفسك.. أن تجعل من نفسك ورغباتك وإحتياجاتك أولوية.. أن تفعل ما تحبه.. وأن تقلل مما يستنفذ طاقتك وربما أن تتخلى تماماً عما يستنفذك ولا يضيف لك!
الغيرة
الغيرة شعور ينتابنا عندما نريد امتلاك شيء ما يملكه الآخر..
الحل؟ أبدع وابتكر لتحصل على ما تريد!.. تغارين من فلانة لأنها جميلة؟ اهتمي بنفسك وأبرزي جمالك.. تغار من فلان لأنه ترقى؟ ابتكر وأبدع في عملك.. وهكذا..
الشعور بالذنب
هو غضب مكتوم نحاول إنكاره.. نلوم أنفسنا عليه.. ونشعر أنه ليس من حقنا أن نكون غاضبين!
الحل؟ اسأل نفسك ما هو الغضب الذي تكبحه وتشعر أنه ليس من حقك؟ واجه نفسك بصدق.. وتعامل مع الغضب كما سبق وأوضحنا.. وسيدهشك اختفاء الشعور بالذنب!
هذه أمثلة بسيطة أرجو أن تكون قد أثارت فضولك لأن تعرف أكثر عن المشاعر وكيف تحسن إدارتها.. وأن تعرف المزيد عن الذكاء العاطفي الذي هو بمثابة حجر الأساس للنجاح في كل العلاقات الإنسانية في الحياة الشخصية والعملية..
سأخالف ما تعودت عليه في هذه السلسلة من التدوينات.. ولن أختمها بوصايا للتعامل مع الإنسان "العاطفي"..
ما أنصحكم به ولا أستثني نفسي، أن نداوم على تعلم مهارات الذكاء العاطفي، وألا نكل من مواجهة مشاعرنا وتهذيبها.. وأن نحسن من سلوكياتنا.. ونرقق أرواحنا.. فكلنا هذا الرجل الذي يحتاج إلى تنمية ذكائه العاطفي!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.