بدأنا في مقالنا السابق توضيح موقف الإسلام من الاختلاف الديني، لأن معظم حالات العنف، أو القتل باسم الله، تتم بناء على مبدأ الخلاف الديني، وبينا أن الله عز وجل خلق الكون ليكون مختلفاً دينيًّا وفكريًّا وعرقيًّا، وأن هذه هي إرادة الله، وأي محاولة ضدها هي سباحة ضد سنن الله في الكون، وبقيت أمور أخرى مهمة في موقف الإسلام من الاختلاف الديني، تكمل بقية الرؤية، إضافة لما سبق بيانه، وهي:
الدنيا دار عمل والحساب في الآخرة:
فالإنسان المسلم يعيش في الحياة بإيمانه بالله عز وجل، حريصاً على أن يدعو الآخرين لهذا الخير، دون إجبار أو قهر، مؤمناً بأن هذه الدنيا هي دار اختبار لكل إنسان قد اختار دينه ومنهجه الذي يعيش به فيها، وأن الحساب على ما يعتقد الإنسان، ويؤمن به في الدار الآخرة، وليس في الدنيا، وهو حساب موكول إلى الله وحده، وليس إلى البشر، فلا يملك أحد أن يحاسب أحداً على إيمانه، أو كفره، والحساب يوم القيامة، يقول تعالى: (ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون) آل عمران: 55، ويقول تعالى: (أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) المائدة: 48.
يقول عبد الكريم الخطيب: (وقوله تعالى: (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي لو أراد الله سبحانه أن يجعل الناس أمة واحدة، تلتقي على مشاعر واحدة، ولغة واحدة، لفعل، فما لمشيئته من معقّب، أو معترض، ولكنه سبحانه حكيم عليم، اقتضت حكمته، وشاءت إرادته أن يجعل الناس أمماً وشعوباً، كما جعلهم أفراداً، وكما جعلهم ذكراً وأنثى.. وقوله سبحانه: (وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أي: ولكنه سبحانه وتعالى لم يجعلكم أمة واحدة، كما لم يجعلكم كائناً واحداً، ليكون لكل أمة حسابها، كما يكون لكل فرد حسابه، وفي مجال العمل والخير والحق تتسابق الأمم، كما يتسابق الأفراد).
ويقول تعالى: (قل أغير الله أبغي ربًّا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) الأنعام: 164.
ويقول تعالى أيضاً: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) البقرة: 113. فالآيات هنا ركزت على مبدأ: أن المرجع والحكم على الناس من حيث إيمانهم وكفرهم، إلى الله وحده، فهو الذي خلقهم، ولا يملك محاسبتهم إلا هو، ويكون الحساب يوم القيامة لا في الحياة الدنيا.
إعذار من لم تبلغه رسالة الإسلام صحيحة:
إن الذي يؤاخذه الله سبحانه وتعالى، ويحاسبه على عدم إيمانه بالإسلام، هو من بلغته دعوة الإسلام، واضحة بلا لبس أو غموض، وبلا تشويش أو غبش، وهو أمر قصّر فيه كثير من المسلمين للأسف، وهو ما ناقشه العلماء، تحت باب: حكم من لم تبلغه الدعوة الإسلامية، وقد تناول الإمام ابن حزم هذه القضية في كتابه: (الفصل في الأهواء والملل والنحل)، فقال رحمه الله:
(قال الله عز وجل: (لأنذركم به ومن بلغ) الأنعام: 19، وقال تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) الإسراء: 15، فنص تعالى ذلك على: أن النذارة لا تلزم إلا من بلغته لا من لم تبلغه، وأنه تعالى لا يعذب أحداً حتى يأتيه رسول من عند الله عز وجل، فصح بذلك أن من لم يبلغه الإسلام أصلاً فإنه لا عذاب عليه.
وكذلك من لم يبلغه الباب من واجبات الدين، فإنه معذور لا ملامة عليه، وقد كان جعفر بن أبي طالب وأصحابه -رضي الله عنهم- بأرض الحبشة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة والقرآن ينزل، والشرائع تشرع، فلا يبلغ إلى جعفر وأصحابه أصلاً؛ لانقطاع الطريق جملة من المدينة إلى أرض الحبشة، وبقوله كذلك ست سنين فما ضرهم ذلك في دينهم شيئا، إذ عملوا بالمحرم وتركوا المفروض).
ويقول تعالى: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) الأنعام: 19.
قال البيضاوي: وهو دليل على أن أحكام القرآن تعم الموجودين وقت نزوله ومن بعدهم، وأنه لا يؤاخذ بها من لم تبلغه اهـ.) ويقول الشيخ محمد رشيد رضا: (العبرة في دعوة الإسلام بالقرآن، فمن لم يبلغه القرآن لا يصدق عليه أنه بلغته الدعوة، وحينئذ لا يكون مخاطبا بهذا الدين، ومفهومه: أن الحجة لا تقوم بتبليغ دعوة الإسلام بالقواعد الكلامية، والدلائل النظرية التي بُني عليها ذلك العلم، أي إلا أن ينص فيها على أصوله وأحكامه، وإننا نرى المسلمين قد تركوا دعوة القرآن وتبليغه بعد السلف الصالح، وتركوا العلم به، وبما بينه من السنة إلى تقليد المتكلمين والفقهاء، والقرآن حجة عليهم وإن جعلوا أنفسهم غير أهل للحجة).
ويقول الشيخ محمد أبو زهرة: (وإن هذا النص يستفاد منه أمران: أولهما: أن من لم يبلغه القرآن ولا يعلم عنه شيئا، فإنه لَا يعتبر قد بلغته الدعوة الإسلامية، وإثمه على الذين تقاصروا عن تبليغها وبيانها. ثانيهما: أنه لَا معذرة لمن يعرف القرآن، في الكفر بالحقائق الإسلامية.
ولكن كيف التبليغ بالقرآن، والعجمة سائدة في هذا الوجود سواء أكانت إنجليزية، أو فرنسية، أو غيرهما؟
والجواب عن ذلك: أنه يجب في سبيل الدعوة إلى الإسلام؛ التي هي فرض كفاية على المسلمين؛ يأثم المسلمون جميعاً إن لم يكن دعاة إلى الإسلام، يجب عليهم أن تفسر طائفة مخلصة مؤمنة فاهمة القرآن تفسيراً موجزاً تبين معانيه، ويترجم ذلك التفسير إلى كل لغة أعجمية).
لكن الشيخ أبا زهرة رحمه الله يعتقد أن مشكلة البلاغ في ترجمة القرآن ترجمة مختصرة للغات العالم تكفي لبلوغ القرآن للناس، وهو أمر قد يراه الشيخ حلًّا لقضية البلاغ لغير المسلمين، ولو تمت هذه الترجمة كما طالب الشيخ، فأي ترجمة تعتمد، وكثير من التراجم تعوزه الدقة، ويعوزه الشرح المبسط المحبب للقارئ.
كل هذه عوائق تمنع وصول الإسلام للناس، كي تقوم عليه الحجة إن كفر بالله ورسوله، ولا تقوم الحجة على الناس بدون وصول رسالة الإسلام للناس واضحة بلا غموض، في ثوب قشيب تحبب لهم الإسلام، فما بالنا والصورة التي تصدر عن الإسلام من بعض أتباعه منفرة، تنفر المسلمين قبل غيرهم؟! فضلاً عن أن معظم غير المسلمين لديهم كتب سماوية، نؤمن كمسلمين أنها طالتها يد التحريف، فما حكم غير المسلم الذي لا يعلم أن كتابه قد حُرِّفَ، هل يحاسب على ذلك، أم ماذا، وهو ما نوضحه في مقالنا القادم إن شاء الله.
انظر: التفسير القرآني للقرآن لعبد الكريم الخطيب (2/1111،1110).
انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (4/50).
انظر: تفسير المنار لمحمد رشيد رضا (7/285).
انظر: زهرة التفاسير لمحمد أبي زهرة (5/2463).
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.