يصل عدد المستخدمين النشيطين شهريًّا لمواقع التواصل الاجتماعي الستة الأولى عالميًّا إلى 5.5 مليار مستخدم، هذا العدد الهائل من المستخدمين يدل على أن هذه المواقع أصبحت واقعاً مفروضاً على العالم؛ حيث إنها قادرة على اختراق الحواجز الزمانية والمكانية والوصول إلى جميع البشر في شتى بقاع الأرض، والانخراط في المحيط المجتمعي، مشكِّلة بذلك مجتمعاً افتراضيًّا له قوانينه وقواعده الخاصة، والتي تعمل على تسيير حركته وفقاً لآليات وتقنيات الاتصال الحديثة.
لا يختلف اثنان حول الأهمية البالغة لهذه المواقع، وما لعبته من دور مهم في التحولات التي عرفها ويعرفها العالم في الآونة الأخيرة، لكن هذا لا يمنع من طرح مجموعة من التساؤلات:
ما مدى نجاعة التواصل الذي توفره هذه المواقع؟ وهل تحقق وسائله وطرق استعمالها الغاية الأسمى من التواصل؟ إلى أي حد يمكن اعتبار التواصل الافتراضي انحصاراً وتقوقعاً؟
إذا ما فتحت حساباً فيسبوكيًّا لشخص لا تتقاسم معه نفس الاهتمامات والأفكار ستكتشف أنه يعيش في مجتمع "افتراضي" غير الذي تعيش فيه، وأنك وهو تعيشان قطيعة مجتمعية فرضتها مواقع التواصل الاجتماعي، واستهلاككما لما يروج في "مجتمعيكما" الافتراضيين يكون له الأثر البالغ على سلوككما في المجتمع الواقعي الذي يجمعكما.
على هذا النحو يتوزع مستعملو مواقع التواصل الاجتماعي عبر دوائر غير مرئية، تتشكل حدودها حسب الميولات الفكرية، السياسية، الفنية، الرياضية، وحتى العبثية التي تشكل القاعدة الكبرى، وكلما اتسع البون بين هذه الميولات كلما زاد الانحصار الفكري والتواصلي والإبداعي لأفراد هاته الدوائر في نطاق الإطار الضيق الذي تخندقت فيه، فتصبح بذلك رهينة نمطية فكرية وخطابية قاتلة.
الخطير في الأمر، أن الفرد في إحدى هذه الدوائر يُصَوَّر له أن المجتمع هو دائرته، فيتبنى بذلك آليات تحليلها، وتصوراتها وقراءتها للواقع، فيصبح خروجه للواقع خروجاً مقولباً، وسلوكه فيه، سلوكاً مزيفاً، انتفى منه مبدأ الموضوعية الذي يتيح للعقل الناقد القدرة على التفكيك وإعادة البناء على أسس علمية.
وتجد ناشد التغيير كثيراً ما يقع في هذا الفخ، فكل ما يستهلكه بصريًّا وسمعيًّا أثناء ساعات جلوسه أمام حسابه الإلكتروني هو أفكار حزبه وفئته، وما يؤكد صحتها من أمثلة واقعية، مما يفرز عقليات متكلسة غير قادرة على الحوار وتقبل الآخر في إطار النسبية والممكن، وفي إطار استحضار الموقع والموقف المخالف وحيثياته، كما تفوته بذلك فرصة غشيان دوائر شعبية أخرى أكبر بكثير من دوائر السياسة الضيقة.
هذه الإشكالات وغيرها كثير مما ذكر ويذكر حول سوءات مواقع التواصل الاجتماعي، تستوجب اعتماد مجموعة من الأساليب لتحقيق الأهداف المرجوة من وراء استعمالها، نذكر منها:
1- اعتماد معيار الفاعلية التواصلية وليس معيار الإثارة والمتعة العبثي أثناء استعمال هذه المواقع، بمعنى قياس مدى إيصال واستقبال الرسائل والأفكار من أكبر وأوسع دوائر "المجتمع" الافتراضي.
2- قيادة "المجتمع" الافتراضي بحقائق المجتمع الواقعي، أي أن تكون مخالطة الناس وحضور تجمعاتهم هي الموجه للمنتوج الإعلامي وطبيعة التفاعل معه.
3- التقليص من ساعات التسمر أمام شاشات الحاسوب عن وعي أو عن غير وعي في حدود المفيد.
اعتماد الحس النقدي في استهلاك ونشر المنتوج الإعلامي للتمييز بين الصالح والطالح لصيانة البناء الفكري للفرد من العبثية والتشوه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.