اللغة العربية أو لغة الضاد كما يُطلق عليها، وذلك لتفردها بهذا الحرف عما سواها من لغات العالم الأخرى، هي إحدى أهم اللغات السامية وأقدمها على الإطلاق، فهي لغة الأدباء والمفكرين والعلماء الذين أثروا التاريخ بعلمهم، وساهموا في إنارة عقول العالم بعد سنوات من الجهل والعصور المظلمة، من خلال الأسس والقواعد العلمية والأدبية، التي تعد نقطة الانطلاق لما وصل إليه العالم اليوم من تقدم وتكنولوجيا، فاللغة العربية بالإضافة إلى كونها اللغة التي ينطق بها أكثر من 300 مليون شخص كلغة أولى، فهي أيضاً اللغة الأكثر قدسية لدى مليار ونصف المليار مسلم حول العالم باعتبارها لغة الوحي والرسالات والقرآن الكريم.
ومع هذا القدر والشأن العظيم للغتنا، كان لا بد أن نلحظ العديد من المحاولات التي تهدف بطريقة أو بأخرى إلى إضعافها وتشويه معالمها حتى تندثر ويندثر معها التراث والحضارة العربية؛ وبالتالي تُمحى آثار 15 قرناً من الآداب والعلوم لتقتصر بعد ذلك على الشعائر الدينية فقط، ولكن هل تعي البلدان العربية حقًّا مدى أهمية اللغة في الحفاظ على حضارتها وأهمية التنبه لمحاولات الغزو الثقافي والتصدي له؟
منذ عدة سنوات والكثير من الدول العربية اعتمدت اللغة الإنجليزية أو الفرنسية كلغة أولى في معظم المؤسسات التعليمية وأصبحت اللغة العربية لغة ثانية مهمشة، وهو ما أخرج لنا جيلاً لا يتقن لغته ويقف أمام أبسط مصطلحاتها مستفهماً! بالإضافة إلى الأخطاء اللغوية الفادحة، وهو ما يوضح مدى إهمال المجتمع، حيث لم تكن هناك أي محاولات لاستدراك هذا الأمر، بل على العكس من ذلك فقد اعتبر الكثيرون أن اللغات الأجنبية أضحت سبباً للوجاهة أكثر منها للفائدة الاجتماعية.
وهو الأمر الذي انعكس حتى على أبسط الأمور اليومية كالمحادثات والرسائل الشخصية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فقد اتخذ الشباب من لغة الفرانكو أوالعربيزي لغة خاصة بهم للتعبير عن أنفسهم، وإن كانت تُعبر عن مدى التخبط الذي يمر به الشباب ومحاولة التخلص من اللغة ولو بصفة شكلية، حيث تعتمد فكرتها على كتابة العربية بحروف إنجليزية.. فلا هم استخدموا العربية ولا هم أتقنوا الإنجليزية، وهو الأمر الذي أصبح شائعاً، واعتاده القارئ والمتصفح للمواقع الإلكترونية.
ولا يتوقف الاستخدام المبالغ فيه للغات الأجنبية عند هذا الحد، بل امتد ليشمل كافة مناحي الحياة من إعلانات وأسماء محال وعلامات تجارية وقوائم الطعام في المطاعم المحلية، بالإضافة إلى الأجهزة الإلكترونية التي لا تدعم اللغة العربية، وإن تم تعريبها تستخدم مصطلحات ركيكة لا توضح للمستخدم ما يبحث عنه بشكل كافٍ، هذا ولم يختلف الحال كثيراً مع وسائل الإعلام التي غالباً ما تعزز هذا الفكر بإبراز الشخص الذي لا يتقن اللغات على أنه ذو مكانة اجتماعية أقل ومحط سخرية من الآخرين، وهو ما يجعل أي شخص مضطرًّا أن يساير العادات التي فرضتها البيئة المحيطة عليه، حتى يتمكن من فهم ما يدور حوله ولا يقف عاجزاً أمام عائق اللغة داخل بلاده العربية، أو يصنف على أنه من الفئات الأقل علماً وتحضراً.
وبالرغم من التطورات السلبية المشهودة التي طرأت على لغتنا، فإن البعض ما زال يرى أن ما يحدث ما هو إلا تطوراً اجتماعيًّا لنستوي مع سائر الأمم المتحضرة، ولكن وعند المقارنة وإمعان النظر فيما انتهجته الدول المتقدمة، نجد أنها لم تتخلَّ عن لغتها يوماً، ولم تحاول مجاراة الدول الأخرى على حساب هويتها.
ولعل أبرز مثال على ذلك هي اليابان التي وبالرغم مما لحق بها من هزيمة وخسائر في الحرب العالمية الثانية، إلا أنها رضخت لجميع العقوبات المفروضة عليها ما عدا تغيير اللغة اليابانية كلغة رسمية في مؤسسات الدولة وعلى رأسهم التعليم لتصبح اليوم هذه اللغة مرجعاً للعلوم والدارسين فيها، ومن الأمثلة الأبرز أيضاً إسرائيل -بغض النظر هنا عن الاعتراف بها كدولة من عدمه- التي تلتزم في كافة أبحاثها العلمية والمراحل الدراسية باللغة العبرية مما جعل منها مرجعاً في العلوم النووية، وغيرهما الكثير من الدول الأخرى التي لم تتخلَّ عن لغتها وأدركت أهميتها وأثرها، وتُصنف كافة هذه الدول على أنها من الدول المتقدمة والناجحة اقتصاديًّا وعلميًّا والتي تُصدر إلينا التكنولوجيا الحديثة وما نحن إلا مستهلكين لها.
ولا يمكن اعتبار هذا التنديد بما وصل إليه حال لغتنا تقليلاً من أهمية اللغات الأجنبية أو أنه ليس لها حيز ودور في حياة المواطن العربي، وخاصة في ظل التطورات التكنولوجية واتساع دائرة مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي التي أضحت ضرورة حياتية للتفاعل مع كافة الأحداث والأشخاص حول العالم، ولكنه بلا شك انتقاد للأسلوب الخاطئ الذي عادة ما نتبعه نحن العرب في استخدام التكنولوجيا أو محاولات التقليد والانجراف وراء الظواهر دون إعمال العقل والتنبه للنتائج المستقبلية، ولا يمكن إلقاء المسؤولية على أفراد المجتمع فقط، حيث إن الجهات والإدارات المعنية بذلك داخل الدولة هي من تتحمل المسؤولية الكبرى في توجيه المجتمع وترسيخ قيم ومبادئ الانتماء الوطني والقومي داخله وأهمية اللغة في نقل التراث والتصدي لأي ظاهرة قد تزعزع هذه القيم.
فغالباً ما ينساق أفراد المجتمع وراء كل ما يغلب على ظنهم أنه تقدم ويساهم في التنمية الثقافية دون أن يتبادر إلى أذهانهم وجود مؤامرات وأغراض سياسية من جراء ذلك، اعتقاداً منهم أنها ليست إلا مبررات واهية لتعطيل مسيرة التقدم، وهو ما يوضح مدى تدهور الفكر والوعي تجاه أهمية اللغة العربية بالرغم من أن التاريخ يذخر بأمثلة ونماذج لحضارات منها ما اختفى ومنها ما طُمست هويته نتيجة اندثار اللغة المعبرة عنه، ولعل أول ما يتبادر إلى الأذهان هو طمس الهوية العربية والإسلامية في الأندلس بعد سقوطها وبداية الحكم الكاثوليكي لها، والذي عمد إلى تغيير كافة ملامحها من تغيير الزي واللغة وحرق الكتب العربية.
ومع أن العرب تمسكوا بلغتهم إلى الرمق الأخير، إلا أنه ومع تعاقب الأجيال لم يعد هناك من يتقن لغة أجداده أو يتذكرها لانخراطهم في ثقافة المجتمع الجديد، ولا يمكن إغفال النموذج التركي في تغيير اللغة، وذلك بعد سقوط السلطنة العثمانية، حيث تم استبدال الحروف العربية بأخرى لاتينية، وإلزام كافة الصحف والمؤسسات التعليمية بها ومنع استخدام الأبجدية العربية تماماً خلال 6 أشهر مما نتج عنه نشوء جيل معزول عن تاريخه وحضارته القديمة ولا يستطيع حتى قراءة شواهد قبور أجداده.
ولا تعد هذه النماذج هي الوحيدة لبلاد انطفأ بريق حضارتها وتراثها بتغير لغتها وهويتها، بل هناك الكثير من الدول التي طُويت صفحاتها في التاريخ وانتهت إلى نفس المآل سواء كان ذلك بسبب الاستعمار أو تغير نظام الحكم، ولكن الحاضر يختلف كثيراً عن الماضي حيث أصبحت الدول الكبرى لا تدخل الحرب وإنما تصنعها، ولا تستعمر الأرض وإنما تستعمر الفكر وتسيطر على العقول وتهيمن على الثقافة كي يصبح لا مفر منها إلا إليها؛ ولذلك من غير المستغرب أن يضم تقرير اليونسكو لعام 2009 اللغة العربية على أنها من اللغات المعرضة للانقراض خلال 100 عام، وهو ما قد يتحقق بالفعل إذا ما استمر الوضع الراهن كما هو واستمرت حالة السبات العربي وعدم الوعي والانسياق وراء ادعاءات التحضر وعدم تحريك ساكن للتصدي لهذا الغزو الثقافي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.