دخلنا حديقة "إتوشا" الوطنية بالسيارة إلى أن وصلنا إلى مخيَّمنا بعد الظهر. إنها أوَّل رحلة سفاري نقوم بها. لا مزيد من الكثبان الرملية، ولكننا رأينا ملَّاحات في الأفق، وبَدَت الرمال الصخرية بلا نهاية، والحيوانات تستغل كل شبرٍ من الظل الذي توفره الأشجار الضخمة.
إنَّ ما يجعل موسم الجفاف أفضل وقتٍ للخروج في رحلة سفاري هو الحرارة، وبالرغم أنَّ بقع الظل تُزين أرض "إتوشا"، ورغم أن هذه الفضاءات المفتوحة تجعلنا نشاهد الحيوانات بكل وضوح، إلا أن الأمر ما يزال صعباً. بتلك المساحات التي تبلغ أثنين وعشرين ألف كيلومتر مربَّع، والتي يمكن للحيوانات أن تكون في أي مكان منها ؛ لذا فهناك حُفَر مياهٍ عميقةٍ تنادي الحيوانات للذهاب إليها لتُبرد أجسامها وتشرب الماء.
كانت الشاحنة مليئة بالضجَّة. وقد بتنا على أهبة الاستعداد وعيوننا لا تكاد تغمض ، الكاميرات في وضع الاستعداد، والنظارات المقربة حول رقابنا، وكلنا ندقق النظر من خلف زجاج الشاحنة في انتظار أيَّة حركة قد تبدو من حيوان هنا أو هناك.
أول ما رأيناه كان قطيعاً من الظباء مجتمعاً تحت شجرة، وبعد دقائق قليلة كانت ستة أنواع مختلفة إما تسير باتجاه حفرة مياه أو تحيط بها. جاءت زرافة أنثى أولًا، واقتربت جداً حتى أمكننا مقارنة ارتفاعها بارتفاع شاحنتنا، وقفت بارتفاعها الشاهق واقترب جانبها منَّا، وعندما لاحظت وجودنا استدارت عابسة.
وبين الحيوانات التي رأيناها كان الحمير الوحشية. كانت خطوطها البيضاء والسوداء ممتزجة بلون الرمال الصخرية.
ثمَّ كانت هناك الفيلة البرية الصحراوية بأنيابٍ بحجم ذراعي، تشرب أقصى ما يمكنها ابتلاعه من المياه. كانت الحيوانات مثلنا تماماً، فنحن نجلس في الشاحنة بجانب بعضنا بعضا تدور عيوننا في كل مكان وننبه بعضنا لأي حركة أو أي مشهد ، وهكذا كانت الحيوانات ، فأي حركةٍ يلحظها أحدها كانت تُنبّه الآخرين ؛ فيستعدون للهروب إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
ورغم أنَّ حديقة "إتوشا" الوطنية معروفةٌ بكونها مكاناً تتجوَّل فيه الحيوانات بحرية دون أن تختبئ؛ إلا أن ذلك يجعل مطاردتها أكثر صعوبة ، لأنها ترى بعضها البعض وتهرب من بعضها البعض ، على العكس من حدائق أخرى تخصص فيها مساحات لكل من نوع من الحيوانات . وبالتالي عندما تكون الحيوانات بقرب حُفَر المياه فمن غير المرجَّح لها أن تهاجم فرائسها. وتجمَّع بعدها عدد قليل من المها عند الماء، كما لو كان ثمَّة اتفاقٌ ضمنيٌ بين الحيوانات: نحن جميعاً في أمانٍ الآن.
أعلم أني أفرط في حديثي عن الحر، لكني أستطيع القول إن "إتوشا" كانت أسوأ بكثير من دبي، ذات الحرارة التي تصل إلى خمسين درجة مئوية، والتي عشت فيها أثناء فصل الصيف. حين وصلنا إلى المخيَّم كان المكان الوحيد الذي يمكننا أن نُبرد أجسامنا فيه هو بالقرب من حمام السباحة، لكني اخترت أن أبرد نفسي بكل ما استطعت تناوله من الآيس كريم. بعد الغداء أسرعت مع "بِث" لرؤية الفيلة وهي في طريقها إلى حفر المياه. كان بإمكاننا مشاهدتهم إذا وقفنا بجانب السور على حافة المُخيَّم.
أنتظرنا بفارغ الصبر أن يأتوا ، ولمحناهم وبشكل غير متوقع يسيرون بخطى مترددة من بعيد حذرين من أي حركة حولهم. وبعد بضع دقائق كانت الفيلة، حرفياً، على بعد خمسة أمتار منا، وكل ما بيننا من حواجز هو سياج نصفه مكسور. وقف فيلان برّيان أمامنا مباشرةً فحجبا الضوء تماماً. كان وجودهما مهيباً. وقفنا -أنا وبِث- دون حراكٍ وعقدنا أنفاسنا لنبدو وكأننا أشياء لا روح فيها كما نٌصحنا سابقا ، وفي اللحظة التي أدركوا فيها أنَّنا لا نُمثل تهديداً لهم أسرعوا الخطى بعيداً.
عُدنا إلى المخيم مصدومين مما رأينا. جلس الجميع في الشاحنة وتلمسنا طريقنا؛ فلم يكُن باستطاعتنا رؤية أي شيء في المساء. لكن حفرة الماء بجانب مخيمنا كانت هي كل ما نريد رؤيته بمشهد الحيوانات وهي تأتي من بعيدٍ لترتوي ولتقف بجانب الحيوانات التي سبقتها من قبل. في الليل يتغير كل شيء؛ فقد أصبح الجو أكثر مدعاة للهلاك ، والجميع يقف متأهباً للهروب.
في اللحظة التي أردنا النوم عندها أبلغونا أننا سنعود إلى خيامنا. في العام الماضي نام أحدهم وهو يتسلى بمشهد حفرة الماء فقفز أسدٌ من فوق السياج وألتهمه. ومنذ ذلك الحين وضعوا سياجاً مكهرباً حتى يبقوا الحيوانات المفترسة بعيداً إذا ما حدَّثتهم أنفسهم بالهجوم.
ورغم أني كنت أعلم إن السياج يوفر لنا حماية بقدرٍ ما، لكن دقات قلبي تسارعت حين أيقظني زئير الأسود، وأصوات الفيلة والكثير من الحيوانات الأخرى. شعرت كما لو كانوا بجانب خيمتي. رفضت حتى أن أفتح عيني.
استيقظنا قبل ضوء الشمس لنلحق بالحيوانات الليلية. لا يمكن أن يمر شروق أو غروب في أفريقيا دون أن تبهرنا بجمالها. تزخر السماء بألوان برتقالية وزرقاء تعكسها الأشجار والفيلة التي نلمحها فتغير ألوانها للحظة أخَّاذة.
بعد العاشرة صباحا لم نستطع رؤية أي شيء، وبما أني كنت في المقعد الخلفي بالشاحنة ولا أحد يراني، أغلقت عيني لأنام. أجل؛ في رحلة سفاري لا تتكرر سوى مرة في العمر لم أستطع أن أبقي عيني مفتوحتين. بعد دقائق استيقظت لادرك أن أصدقائي يضحكون على الصور التي التقطوها لي وأنا نائمة. كانوا يغيظونني: من ينام في رحلة سفاري في ثالث أكبر حديقة في العالم؟ أنا. وبعد ساعات قليلة، قلَّدوني جميعاً.
وأثناء مراقبتنا الحيوانات بالقرب من حفرة المياه بدأت ألاحظ سلوكها . فالأسود تراقب المنطقة جيئةً وذهاباً، أمَّا الفيلة فتشرب الماء بجانب بعضها البعض، فتشعر بالرابط الذي يجمعهم بالقطيع.
من الصعب وصف "إتوشا"، هذا المنظر الذي يحبس الأنفاس بمكوناته وحيواناته لأنَّه ليس كأي مكانٍ اعتدت رؤيته. إنَّه لأمر بالغ الصفاء أن تكون في البرية ، في موطن تسكنه أنواع غير الإنسان ، بيئة هادئة حتى ولو استيقظت على صرخات حيواناتها .
كان النهار الذي تلا هو وقت انطلاقنا إلى "ويندهويك" عاصمة ناميبيا، ولنودّع صديقتينا "هانَّا"، المحامية البريطانية التي استمتعتُ بالحديث معها والشكوى إليها، وسيبيل، الفتاة السويسرية المسالمة ذات القلب الطيب التي كنا ندعوها "سويسس" لمدة أسبوعين كاملين. ومع أنَّ الوداع كان صعباً، إلَّا أننا كنا متحمسين لنرحب بثلاثة أصدقاء جدد.
وبينما كنا نفك خيامنا في الصباح، ذكّرت نفسي بأن أضع هاتفي في جيبي لأراسل أسرتي حين أحصل على اتصال بالإنترنت. فككت خيمتي مع "جاسمين" وتناولنا الإفطار، لكني أدركت الورطة التي وقعت فيها. لقد حزمت خيمتي وبداخلها الهاتف. جريت إلى الشاحنة بسرعةٍ وشددت خيمتي وبدأت في فكها. تعجَّب أصدقائي وسألوني: "ماذا هنالك يا مريم؟ لم أستطع الهروب من غرابتي حينها وأنا أفك الخيمة فاعترفت لهم: لقد حزمت هاتفي مع الخيمة. انفجر الجميع في الضحك وأسرعوا إلى كاميراتهم ليصوروني وأنا في موقف محرج آخر. وأخيراً، تمكنت من الحصول على هاتفي بأمانٍ بمساعدة "دنيس" بعد أن أخرجته من الخيمة بخدشٍ صغيرٍ.
كان منظرنا حين عدنا إلى الفندق ذي خمس نجومٍ لا يُوصف. كنا نرتدي ملابس سفاري واسعة وأجسامنا مغطاة بالرمال، أقدامنا وأيادينا سوداء اللون بسبب ما علق بها، ووجوهنا حمراء ومغطاة بالعرق. خطونا إلى صالة الاستقبال وهرعنا إلى المشروبات التي يقدمونها وإلى تكييف الهواء. بدت اللحظة وكأنها فرصتنا الأولى للحصول على حمامٍ جيدٍ ولنرتوي بالمياه.
جلستُ بحماسٍ وبدأت أطلع أسرتي على أخباري. اتصلت بهم واحداً واحداً لأقول لهم كم اشتقت إلى سماع أصواتهم. اكتشفت أنَّ واحدة من أعز صديقاتي، وهي عندي كما الأخت، قد أنجبت طفلاً، وفي لحظاتٍ مثل هذه، اشتقت إلى أن أكون في منزلي.
ذهبنا لنتناول عشاءً لذيذاً، التقينا خلاله أناساً جدداً وودّعنا صديقين آخرين. كانت معنا نادلة استطاعت أن تحفظ طلبات سبعة وعشرين شخصاً عن ظهر قلب دون ورقة وقلم. كانت مدهشة.
خلدنا للنوم حين لم نستطع أن نُبقي عيوننا مفتوحةً. وكان قضاء خمس ساعات في السرير أمراً يعيد الانتعاش إلى أجسادنا المنهكة.
سنعبر غداً الحدود إلى بتسوانا. وبعد أيامٍ سنتجه إلى "دلتا أوكفانغو" لنختفي عن الأنظار ونُخيّم على جزيرةٍ نائيةٍ.
** الصور من مدونة مريم حراز عن رحلتها إلى أفريقيا.. المزيد هنا، ويمكن زيارة حسابها على انستغرام هنا.
لقراءة الجزء الأول من هذه التدوينة يُرجى الضغط هنا
الجزء الثاني اضغط هنا
الجزء الثالث اضغط هنا
الجزء الرابع اضغط هنا
الجزء الخامس اضغط هنا
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.