تجربة أمومتي لطفلي الثاني "علي" لها مذاق مختلف، فقد شعرت أني أكثر نضجاً عاطفيًّا وعقلانيًّا، وأكثر تركيزاً في تفاصيل دقيقة قد تكون فرحتي بكوني أمًّا لأول مرة جعلتني أغفلها.
ومنذ أن كنتُ طالبة في الجامعة كان شغفي واهتمامي بالأيتام، فكان من الطبيعي أن أرى وجوه الأطفال الذين كنت أزورهم وألعب معهم كلما احتضنت وتأملت طفلي.
كثيراً ما كنت أسأل نفسي "ما الشيء الذي بوسع الفرد فعله لتعويض اليتيم الرضيع فقدانه ضمة أمه وشعوره بالأمان؟" فبعد أن اعتاد سماع دقات قلب أمه وصوتها لمدة 9 أشهر، يفتقد اليتيم ضمة صدرها ويعاني بما يسمى بصدمة الانفصال Detachment Trauma والتي تؤثر سلباً على نمو الطفل النفسي والوجداني والجسماني.
فما الشيء الذي في مقدورنا فعله لكي ينعم اليتيم بطفولة سعيدة وآمنة؟
حق الاسم
من منا لا يبحث عن تفاصيل اسمه، من سماه، ولماذا؟ وما هي الأسماء الأخرى التي كانت مطروحة؟ وصفات من سمي على اسمه أو معنى اسمه؟
لكن، في حالة الأطفال الذين نشأوا في دور أيتام فهم لا ينعموا بمعرفة هذه التفاصيل.
فأقل ما يمكن فعله هو أن نمنحهم أسماء جميلة، نجعلهم يعتزوا بها وأن نعرّفهم بمعناها. وطبقاً لفتوى من الأزهر الشريف فإنه يمكن أن يعطي كفيل الطفل أو مؤسس الدار اسم عائلته للأطفال مجهولي النسب، وذلك لإكساب الطفل إحساساً بالانتماء والعزوة في المجتمع.
حق الرضاعة
لست في صدد التعريف بأهمية وقيمة لبن الأم للطفل، يكفينا أن نتذكر أنه في قديم الزمان كانت هناك مهنة اسمها "المرضعة" ونجد ذلك في قصة حياة سيدنا موسى وحياة سيدنا محمد -عليهما أفضل السلام- ويكفينا أن نرى العالم يدعو ويدعم الرضاعة الطبيعية كحق أساسي للطفل. فلبن الأم يحتوي على مضاد حيوي طبيعي يقي الطفل الكثير من الأمراض، ويقوي الجهاز المناعي لمقاومة كافة أشكال المرض. فماذا عن اليتيم؟
قد ينعم الله على الأم بفائض من اللبن لا يحتاجه صغيرها وقد يضرها إن أبقته، وقد -لا سمح الله- تفقد الأم رضيعها، فيبقى اللبن دون أن يستفيد به أحد. ولكن، هناك من هو في أمس الحاجة لهذا اللبن، فلو أنه تم تقنين عملية التبرع باللبن الطبيعي للأيتام في إطار عملي ومنظم يراعي الشرع، لاستفاد الكثير من أطفالنا الأيتام بهذا الحق. نحن نسمع عن بنوك الدم وبنوك الطعام والكساء، فهل يكون هناك يوماً بنك للبن الطبيعي؟! علما بأن اللبن الطبيعي يمكن تخزينه لمدة تصل 6 أشهر ويظل محتفظاً بقيمته الغذائية.
حق الاحتضان
مقولة إن الطفل لا يبكي إلا إذا جاع أو لرغبته في النوم أو تغيير الحفاضة، هي مقولة خاطئة تماماً. فأحيانا كثيرة يبكي الطفل خوفا أو اشتياقا لحاضنته والتي تكون عادة الأم أو الجدة أو الخالة. فالطفل قد يكون لديه أكثر من حاضنة يطمئن لها ولكن بشرط ألا يتغيرن باستمرار. فقد ثبت علميًّا أن احتضان الطفل يؤثر بشكل كبير على نموه وعلى تطوره النفسي والعقلي.
وهنا وجب التركيز على دور الحاضنة أو ما تسمى بـ"الأم البديلة" في حياة الرضيع اليتيم، فهي من تشعره بالأمان، وهي من تفهم احتياجاته من خلال بناء علاقة لا يفهما سواهما. يألف وجهها وابتسامتها ويشعر بدفء مشاعرها تجاهه وقدرتها على احتوائه.
لكن تقع المشكلة الرئيسية في تبدل هذه الحاضنة باستمرار نتيجة ظروف العمل وقلة الخبرة وصغر السن.
ففي كثير من الأحيان لا تتلقى الحاضنة التدريب الكافي، كما أنها تكون مضغوطة بسبب مسؤوليتها عن عدد كبير من الأطفال، كما أنها لا تدرك قيمة مهنتها الإنسانية والتي لا يقدرها المجتمع معنويًّا ولا ماديًّا.
بالإضافة إلى رفض الأمهات البديلات، إن وجدن، المبيت في الدار لرفض المجتمع الشرقي مبيت الفتاة أو السيدة خارج منزلها.والنتيجة أن يعيش الطفل في طفولته المبكرة مشتتاً عاطفيًّا، كلما اعتاد حضن امرأة وسكن لها، اختفت وجاءت أخرى مما يعرضه لصدمات انفصال متتالية Detachment Trauma .
لو أن دور الأيتام طلبت من السيدات اللاتي يرغبن في التطوع أو كفالة الأطفال والقريبات من الدار، بعد تدريبهن وبعد التأكد من أنهن أهل ثقة وملتزمات بمهامهن، بأن يشكلوا مجموعات كل مجموعة تتولى طفلاً ويتناوبن عليه في احتضانه، فيحصل الطفل في سنواته الأولى على جرعة الاحتضان المطلوبة لسلامة نموه وصحته النفسية من سيدات ثابتات لا يتغيرن.
حق العناية
الطفل الرضيع بحاجة لملاحظة جيدة عن كثب لسد احتياجاته الفسيولوجية والنفسية. فمن مظاهر العناية النظافة، فالإهمال في النظافة من أكثر ما يبغضه الرضيع. من أجمل لحظات طفلي "علي" هي تلك التي تتبع حمامه اليومي.
ولا أنسى بكاءه وتألمه بعد تطعيمه، لم أكن أملك سوى الكمادات وخافض الحرارة للتخفيف عن ألمه. كنت أحتضنه بشدة وأقول له إني أعي أنه يتألم وإني أتألم لألمه ولكن ألمه سيزول. نعم كنت أكلمه فالأطفال يشعرون بالتواصل الإنساني من خلال تعبيرات الوجه والعينين ونبرة الصوت.
لذلك تأتي أهمية الإشراف اليومي وذوي الخبرة لمراعاة تفاصيل كثيرة ومهمة في حياة الرضيع مثل هل ملابسه مريحة؟ هل يشعر بالدفء؟ وهل أخذ كفايته من النوم والطعام؟ فقد تغفل الأم البديلة عن هذه التفاصيل لكثرة عدد من ترعاهم أو لقلة خبرتها.
حق اللعب
منذ أن كان "علي" في رحمي وأنا أعرف أنه حين كان يركلني فهذا وقت اللعب بالنسبة له، والذي تعددت أشكاله بداخل رحمي كأن يشد الحبل السري مثلاً، فلك أن تتخيل قيمة اللعب لدى الطفل بعد ولادته وأهميته لنموه بشكل صحي.
عليك أن تكون مبتكراً عند اللعب مع الأطفال الرضع، لأنك لن تستخدم الكرة أو عروسة باربي أو الـ play station في هذه المرحلة، وإنما قد تستخدم صوتك، يديك أو عينيك.
هذه الحقوق على بساطتها، حيث لا تكلف مالاً، إلا أن قيمتها الحقيقية لا تقدر بكنوز الدنيا.
أصحاب دور رعاية الأيتام اختاروا أن يؤدوا رسالة إنسانية لها خير الجزاء وأوفى الثواب، ولكنها مهمة ليست بهينة، فبناء الإنسان من أصعب المهام، والدليل أنك ترى اليوم الآباء والأمهات يلاقون يوميًّا صعوبات في رعاية وتربية طفل أو اثنين، فما بالك بالقائمين على رعاية الأيتام؟!
إن كانت قلوبنا مملوءة بالحب تجاه اليتيم، حتى وإن كان طمعاً في ثواب، فدعونا نعبر عن حبنا بالعمل. دعونا نجتهد ونبتكر في التعبير عن هذا الحب ليكون ثماره في الدنيا جيلاً سويًّا ينعم بالحب والسعادة ويملأه الرضا، وفي الآخرة رضا الله ورفقة حبيبه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.