بين الحين والحين الآخر تسأل عن الجديد، فتسمع الإجابة من حولك ومن داخلك:
لا جديد.. هكذا تقولها طافحاً بالسأم والملل والضيق وتقضي حياتك كما اتفق.. عادي ولا جديد..
الاستسلام لضغوط ومتغيرات الحياة خطر يجعلك هالكَ العقلِ منهكَ الفؤادِ، منتظراً للخوارق والقوى المجهولة، تعيدك لنفسك وتصنع منك خرافةً ووهماً كبيراً!
فتظل محترقاً مختنقاً محشوراً في الفضاء الفسيح.. تضرب رأسك مسامير بطول ناطحات سحاب.. تضل تزحف بين الركام باحثاً عن لقمة عيش.. يطاردك ألف غول وغول.
تخبط بلا هدى، تكدُّ بلا مدى، رأس تضج بِه الطواحين، وقلب تتكاثف عليه غيوم البكاء.
تغدو لتغرق في الزحام..
وإلى أين..؟ تسألك نفسك كما يسألك من هو بقربك وما الجديد؟
والجديد كل هذا المد الزاخر من حولنا للحياة.. عندما نقف نحن عن الحركة وتخمد إرادة الحياة في الأعماق وتنطفئ الأرواح وتذوي الأشواق وتجدب القلوب وتهرم العزائم، تتبلد الرؤية ويغيم الدرب وتبدو الحياة خاوية بلا معنى رتيبة مكررة، مأهولة بالموت، ويبدو الزمان جامداً هرماً طاعناً في الشيخوخة، يفقد كل شيء معناه. حتى وجود الإنسان يصبح عدماً.
فتجيب بلسان "مالك بن نبي":
"لا تسأل عن الجديد في عالم الأشياء، حاجتنا الأساسية في عالم النفوس أكثر منها في عالم الأشياء. إن حاجاتنا الأولى هي الإنسان الجديد الإنسان المتحضر".
إذن.. الجديد أنت وصانعه.
الجديد هو أنت، تدفق تتدفق الحياة معك، اشتعل يضاء الوجود دونك.الحياة لا تتوقف كما يصفها قطب "الشمس تطلع، والشمس تغرب، والأرض من حولها تدور، والحياة تنبثق من هنا ومن هناك.. كل شيء إلى نماء.. نماء في العدد والنوع، نماء في الكم والكيف.. لو كان الموت يصنع شيئاً لوقف مد الحياة".
إن الجديد حياة تبدأ من أعماق نفس جديدة متجددة، تغييُر وانبعاث من الداخل.. ففي العمق تكمن القوة والحقائق وإمكانات التجدد والتحول، والوعي والارتقاء والأعمار.
لكن هذا الإنسان العظيم المتجدد لا يصبح صاحب "أنا" تجديدية حضارية إذا لم يحقق شروط هذه الـ"أنا"، ويمتلك مفتاح تسخيرها وأسبابها الصحيحة.
اعرف نفسك اولاً..
خلاصة الحكمة والفلسفة، اعتبرها محمد إقبال في "رسالة الخلود" أول خطوة في الطريق الصحيح "كن نَفسك".. بداية طريق جديد لتحقيق نوع خاص من السعادة العميقة.
"ابدأ بتخلية نفسك من شوائب ليل الأفكار وحلها بإشعال شمس النهار لترى نفسك، لأن الإنسان الذي يعرف نفسه جيّدًا يخلق المنفعة من الضرر.. "لا بد للسالك من همة تُسيره وترقيه وعلم يُبصره ويهديه.
الجديد أنت.. كما عبر عنها الغنوشي، وهو يفتح هذا السؤال الجارح.. "فهل للبشرية أن تعرف قدرها وترنو بعين الأمل إلى حضارة الإنسان الخليفة حيث لا جمود ولا حركة منفلتة ممزقة، وإنما السير على بصيرة ووعي باتجاه صاعد متقدم، حيث مجتمع القيم العليا..".
يـاأنت.. الجديد تصنعه إرادة نابضة عرفت كيف تتحرر.. وكيف تتمرد على كل ما يهوي بها نحو الحضيض.. الجديد تصنعه نفس تضيء، وهمة تتوقد.
فمن قوة الله الحي.. تنبثق الحياة وتنداح!
لا انتظار..
يقول الفاروق عمر"لا تصغرنّ همتك فإني لم أر أقعد بالرجل من سقوط همته".
لقد أرادك الله نشطاً نابضاً نافراً إليه، منطلقاً من أسر التراب إلى فسح السماء.
وهبك ما يصقلك على الدوام ويضيئك وينفخ فيك من الروح إرادة الحياة، ويبقيك على المدى خليفة جديداً متجدداً. ومجدداً للحياة.
فيا عجباً لإنسان لا يعرف نفسه، ولا يجد ما يصنعه سوى تكرار السأم.. لا جديد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.