..هكذا بدأت الرحلة إذاً، تذكرة طائرة ذهاب و800 دولار فقط في الجيب. هذا كل ما كنت أملكه في بداية طريقي إلى اليابان من أجل الدراسة. وهذا ليس استعراضاً للظروف القاسية التي مررت بها في المراحل الأولى من حياتي باليابان، ولكنه الواقع الذي لم يتح لي فرصاً أكثر من ذلك. لهذا كان البحث عن عمل لكسب قوتي اليومي له الأولوية القصوى من أجل البقاء والاستمرار، وأقصد هنا بقائي في اليابان والاستمرار في الدراسة، وهو الهدف الأول والأخير من هذه التجربة أو المغامرة إن صح التعبير التي لم أكن أتصور يوماً أنها ستمتد على مدى عشرين عاماً.
لكنني على الرغم من كل ذلك كنت متفائلاً دائماً بحكم طبيعتي العربية التي ترى الأمور من منظور "ستحل بإذن الله" ناسياً أو متناسياً مبدأً إسلاميًّا مهمًّا ألا وهو" اعقلها وتوكل" ، ولعل ما جعلني لا أعقلها هو ظني بعدم متاتها البتة بالعقلانية.
وأتذكر وقع قصتي هذه على من حولي من اليابانيين حين حدثتهم عنها، فما كان منهم إلا أن اعتبروها كما ذكرت مغامرة أو تصرفاً متهوراً يفتقر إلى ميزان العقلانية والتخطيط السليم. وليس ذلك بالغريب عن الشخصية اليابانية. فالشخصية اليابانية بطبيعتها الحذرة دائماً ترى الأمور بواقعية الظروف وعين الإنسان الحريص دائماً على عدم المجازفة وتجنب عنصر المخاطرة في أفعاله وتصرفاته وقرارته في كافة مشاهد الحياة المختلفة؛ لذلك أستطيع أن أصفها بأنها شخصية حذرة متشائمة الرؤية -نوعاً ماً- وذلك مقارنة بالشخصية العربية وأيضاً بالشخصية الغربية التي تحاول أن تبقى على تفاؤلها حتى في أحلك وأصعب الأوضاع.
وإذا تأملنا وبحثنا في اللغة اليابانية، فسوف نجد فيها تعابير تعكس الكثير من مظاهر هذه الرؤية الحذرة المتشائمة، فنجد الكثير من العبارات والأمثال التي تعزز فكرة التحضير والاستعداد بشكل مسبق والحذر والتريث وعدم المجازفة عند التعامل مع أمور الحياة واتخاذ القرارات المختلفة.
فالشخصية اليابانية دائماً تضع الاحتمال الأسوأ كقاعدة لبناء تصورها في التعامل مع الأمور لا سيما الأمور المستقبلية، واضعة نصب العين دائماً القاعدة السلوكية التي تعتمد عليها في اتخاذ قراراتها بشكل أساسي في تعاملها مع مشاهد الحياة المختلفة، والتي تنطلق من مبدأ فكري ولغوي يعزز المبدأ السلوكي "الاستعداد والتحضير المسبق يجنبك الإصابة بالحزن والقلق"، أي أنه يجب عليك أن تكون مستعدًّا دائماً لتحمل كافة النتائج التي يمكن أن تترتب عليها تصرفاتك وأفعالك المختلفة واضعاً دائماً نصب عينيك وفي المرتبة الأولى الاحتمال الأسوأ.
يحضرني في هذا الصدد تجربة واقعية حدثت لي في إحدى المحاضرات بالجامعة، حيث سألت إحدى الطالبات في محاضرة كنا نناقش فيها مفهوم الظروف الخارجة عن إرادة الفرد وقدرته وكيفية التعامل معها ومقدار المسؤولية الفردية المفترضة تجاهها وكان سؤالي على النحو التالي: "هل الإصابة بالبرد أو الأنفلونزا شيء خارج عن إرادة الفرد، أم هو شيء يدخل في حيّز المسؤولية الشخصية؟".
قد يتبادر إلى ذهن القارئ بعض التساؤلات كالآتي: "وهل هذا سؤال؟" أو "وهل المرض مسؤولية شخصية؟".
قبل أن نتطرق إلى إجابة الطالبة اليابانية عن هذا السؤال، دعني أيها القارئ العزيز أجيبك أنا عنه: "نعم في بعض الأحيان وفي بعض المجتمعات". قد تكون الإجابة مفاجئة لك، فالرؤية هنا في اليابان مختلفة عن مثيلاتها في مجتمعنا العربي أو باقي المجتمعات الأجنبية الأخرى. كما أن الاختلاف هنا جذري في مفهوم الاحتراس والاستعداد والتعامل مع الأمور، خاصة حين يتعلق هذا الأمر بشيء مثل المرض.
"مسؤولية شخصية، ذلك لأن الشخص كان يستطيع أن يحتاط بشكل مسبق حتى لا تُنقل له العدوى من شخص آخر.. كان عليه أن يضع الكمامة الطبية وأن يتجنب الأماكن المزدحمة وأن يطهر يديه وأن.. وأن..".
..على هذا النحو تتابعت الإجابات الصادمة، بالنسبة لي، من أفواه الطلاب لكنها كانت فريدة النوع في الطرح.
فالإجابة لم تكن مجرد إجابة فردية لطالبة واحدة فحسب، بل كانت معظم الإجابات على نفس النهج، مؤكدة أن التصرف الوقائي والتحضير بشكل مسبق والاستعداد الحكيم خير من التواكل وتعليق المسؤولية على عاتق الظروف والأقدار الخارجة عن الإرادة.
الأنماط السلوكية والأبعاد الفكرية للمجتمع الياباني
قد يعتقد القارئ أن الشخصية اليابانية شخصية لا تؤمن بالظروف الحتمية أو الأمور الخارجة عن إرادة الإنسان، ولكن ردي هو لا، فالأمر ليس على هذا النحو أبداً. بالعكس.. الشخصية اليابانية تؤمن مثلي ومثلك بالظروف والأقدار الخارجة عن إرادة الإنسان. ويعزز كلامي هذا ما نجده في اللغة اليابانية من أمثال وتعابير مختلفة تستخدم في مشاهد الحياة وتجسد إيمان اليابانيين وقناعاتهم بوجود الظروف الخارجة عن إرادة الإنسان.
لكن القضية هنا هو أنه على الرغم من معرفة اليابانيين بمحدودية القدرات الإنسانية، إلا أنهم في نفس الوقت تجدهم يعطون لمعيار بذل الجهد والاجتهاد في كيفية معالجة الأمور وتطبيقها (process) أعلى مقدار من التقدير والاحترام، والتي بالنسبة له تعتبر قيمة مثالية تفوق حد معيار الاهتمام والاعتبار بالنتائج المترتبة على مجرد القيام بالأفعال وهذا ما جعل اليابانيين يصدرون أنماطاً فكرية وإدارية فريدة في نوعها إلى العالم، ويأتي على رأسها مفهوم "kaizen" الذي بات يعرف الآن في كافة أنحاء العالم كأحد النماذج الفريدة في مجال التطوير الإداري، الذي يعتمد على كيفية تطوير أسلوب ومنهجية التعامل مع المشاكل وحلها وليس النتائج. فلا صوت هنا يعلو على صوت الاجتهاد في أداء الأعمال حتى لو كانت النتائج ليست على غير التوقعات أو المأمول. فبالنسبة للشخصية اليابانية الحضور والانتظام الدراسي أهم بكثير من نتائج الاختبارات. كما أن الاجتهاد في الحفاظ على قواعد العمل أهم من مهارات العمل.
إذاً الأهم ليست النتائج بل كيفية الحفاظ على الطريق من أجل الوصول إلى النتائج. فالاستعداد والتصرف بشكل احترازي وقائي لا يعني أن الهدف منه بالدرجة الأولى منع وقوع الحدث ولكنه محاولة للتقليل من نتائجه السلبية الزيادة من فوائده الإيجابية..
فالاستعداد للكوارث الطبيعية لا يعني النجاح في اكتساب القدرة على منعها، بل يعنى القدرة على التقليل من أضرارها ونتائجها السلبية. لذلك فلقد أطلقت اليابان مفهوماً حديثاً تجاه كيفية التعامل مع الكوارث الطبيعية، وهو مفهوم "gensai" أو "كيفية العمل بشكل مسبق من أجل اكتساب القدرة على التقليل من حجم أضرار الكارثة المتوقعة" وليس منعها. وهذا لن يتسنى لأي مجتمع إلا إذا قام كل فرد فيه بما يجب عليه من سلوكيات نابعة من إدراك لقيمة المسؤولية تجاه كل ما يحيط به في المجتمع من إنسان أو حيوان أو حتى جماد.
قد يعتبر البعض هذه السلوكيات -بسيطة الأداء معقدة المفهوم- أنها سلوكيات ليست بتلك الأهمية أو أنها معقدة تفتقد إلى الإنسانية والبعد الديني، الذي يؤمن بالقدر والنصيب، لكن علينا أن نتوقف هنا لنتذكر شيئاً مهمًّا، وهو أن هذه السلوكيات الإنسانية البسيطة هي التي تصنع الأمم والمجتمعات الراقية وافتقادها نفسه أيضاً هو ما يهدم الأمم ويجعل منها نموذجاً للتخلف والتأخر، حتى وإن توفرت لتلك المُجتمعات القدرات والثروات المادية، ذلك أن القاعدة الكونية تجعل لسلوك الإنسان دوراً أساسيًّا في الحفاظ على التوازن في دائرة الحياة الكونية. فقد فطن المجتمع الياباني إلى أن الحياة يجب أن تُقيم بكيفيتها وليس بنتائجها.
ويتبقى لنا الحديث عن الأنماط السلوكية والأبعاد الفكرية للمجتمع الياباني..
وإلى لقاء في الجزء الخامس إن شاء الله تعالى…
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.