بين نهري “بردى” و”الراين” و…”واو الغائب”!

كان المكان هادئاً، ليمتلئ فجأة بالضجيج، بقدوم مجموعة من الفتية والفتيات في رحلة مدرسية، ويمتلئ المكان بالضحكات ودق الدربكة. فالحرب في توقف مؤقت، وهؤلاء الذين عاشوا معظم طفولتهم فيها قد أتوا ليحتفلوا بالربيع.

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/30 الساعة 02:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/30 الساعة 02:59 بتوقيت غرينتش

إنه شهر آذار/مارس، وكالعام الماضي قررنا أن نجتمع في منطقة الربوة على نهر "بردى"، حيث تنتشر المتنزهات على طول النهر، وفي هذه الفترة من العام يكون النهر جارياً. فتجد المطاعم والمتنزهات مليئة بالرواد، حيث لم يبقَ متنفس سواها لسكان دمشق وضواحيها.

مجموعة من الصديقات الرائعات، دمشقيات بشوشات وصديقة أنيقة من حمص تعيش في بيروت، والصديقة القادمة من القلمون المعبأة بشغف تاريخ بلاد الرافدين.

كان نهاراً جميلاً، جلسة دافئة -وإن لم تخلُ من الحديث عن الحرب والأحزان الفردية، وعن الذين غادروا ومن ضمنهم مجموعة من الصديقات اللواتي شاركننا العام الماضي نزهتنا غائبات عن الجلسة من المسافرات خارج البلاد، لنذكرهن ونتمنى لهن السعادة- كان المكان هادئاً، ليمتلئ فجأة بالضجيج، بقدوم مجموعة من الفتية والفتيات في رحلة مدرسية، ويمتلئ المكان بالضحكات ودق الدربكة. فالحرب في توقف مؤقت، وهؤلاء الذين عاشوا معظم طفولتهم فيها قد أتوا ليحتفلوا بالربيع.

اجتمعنا مساءً على أحد مواقع التواصل الاجتماعي وبعثنا بالصور، وتكلمنا عن نزهتنا ونحن ممتنات لبعضنا بعضاً. إحدى الصديقات الغائبات تعيش في ألمانيا قالت: ذهبت إلى نهر "آر" وهو فرع من نهر الراين تضامناً معكن.

وبعثت بصور النهر ذي اللون الأزرق النقي والخضرة حوله بلون أخضر مشرق كأن الخالق حمل علبة ألوان مائية ورشها على تلك البقعة من الأرض.

كان "بردى" بلونه الترابي وهدوئه وكل علب الكوكاكولا والعبوات البلاستيكية الفارغة والأكياس المعلقة به وهو يجري بها بتثاقل، والمكان مزدحم بالنساء والأطفال والفتية وحلقات الدبكة، والضحات، والتقاط الصور التي يتناقص أفرادها سنة بعد سنة، الكل يبتسم بود للجالس مقابله، ولو لم يعرفه، والهواء معبأ بدخان الأراكيل. كل هذا الجو العبق برائحة البعد عن الحرب، والهروب من الخوف إلى أحضان الربوة، كأنك قررت أن تعيش حياتك وتقول للحرب: كفى! لقد تعبنا، وأتعبناك!

كنت أقارن بين الصورتين: نهر الآر الجاري بفرح مراهق يعيش بسلام بلونه الأزرق النظيف حاملاً فوق ظهره مراكب صغيرة تتسابق بينها بمرح. وبين "بردى" الجاري ببطء لألمح فوق ظهره آلاف السنين من الحروب والدمار والغزوات كان "بردى" يجري جاهداً، متعباً، مغبراً. شعرت بالحنين إليه والانتماء للمكان الذي أنا فيه. نساء رائعات يشاركنني طعامهن وحبهن، وابتساماتهن الودودة، فتية وفتيات يقدمون النفاخات الملونة لأطفالي ويتحدثون إليّ وكأنهم يعرفونني منذ دهر، نعم هذه الحرب رغم كل شيء، جعلتنا جميعاً أهلاً وأقارب، لدينا نفس الهمّ، ونفس الحزن، ونفس الأمل، والأهم نفس الهزيمة.

ويبقى السؤال: إلى متى؟
فيردّ المكان: لا يهم!
أما "بردى" فينظر إليّ بطرف عينه كعجوز هرم بابتسامة طيبة: إنه أنا، لقد أشعرتك أخيراً بالانتماء!

نعم، للحنين لون الغبار، هكذا نحن! حنيننا إلى الغبار لا ينتهي، فنحن أبناؤه منذ عهد "نوح "، وسكن ذاكرتنا منذ غزو المغول وتهجيرنا على يد الغرباء. نحن الموسومين باسمه يسكن قرانا ويلعب بأقدارنا، نحن الذين نقتل دموعنا في المآقي، نحنُّ إليه لتدمع أعيننا ونبكي بلا خجل.
وتبقى الصورة ناقصة: أنت و.. واو الغائب.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد