عادت الملاعب الوطنية لتتصدر الأحداث مجدداً بعد أحداث ما عرف بـ"السبت الأسود"، حيث استفاق الجميع صبيحة الأحد على ما تناقلته وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي من صور ومشاهد دموية ستظل عصية على النسيان عقب مباراة الرجاء البيضاوي وشباب الريف الحسيمي، في الليلة التي سبقت بمركب محمد الخامس بالبيضاء.
المفارقة في مواجهات السبت، أنها لم تكن بين جمهوري طرفي المقابلة كما جرت العادة في مثل هذا النوع من الصدامات، فالذين مارسوا الشغب يشجعون الفريق نفسه، وإن كانوا من فصيلين مختلفين، والجدير بالذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي يحدث فيها هذا داخل البيت الرجاوي ومثيله في عدد آخر من الأندية الوطنية أو الأجنبية، وهو ما يثير استغراب الكثيرين من غير المتتبعين للشأن الرياضي في البلاد، وإن كان استغرابهم في محله بكل تأكيد، فإذا كان العنف مرفوضاً كقاعدة عامة في أي مجال، فكيف يكون مبرراً في لعبة الأصل أن تسود فيها الروح الرياضية، وكيف تحول من عنف تمارسه الجماهير خارج أنديتها إلى عنف بين أبناء النادي الواحد، والذي لا يقل دموية أو عدوانية عن العنف الأول المألوف.
كثير من الأسئلة التي تُطرح في هذا الصدد، والتي تجعل المجتمع المغربي يصاب بالحيرة والدهشة محاولاً فهم هذا الجنون الذي سمم الأجواء الرياضية، حتى أصبح لسان حاله يدعو إلى إيقاف أية منافسة كروية في البلاد أو لعب المباريات بدون جمهور أو غير ذلك من الكلام الذي يمكن أن يصنف في دائرة الانفعالات أكثر من أن يكون حلولاً واقعية.
في هذا الجو من الاحتقان والغضب الذي تواجه به ظاهرة الشغب، كان من المنطقي البحث عمن يتسبب في العنف الأعمى الذي يصيب ملاعبنا، والطبيعي أن توجه التهمة تلقائيًّا إلى الألتراس باعتبارها أكبر فاعل اليوم في الملاعب الوطنية والأقدر على حشد جماهير الكرة وطنيًّا، بل وقدرتها التأطيرية تفوق قدرة كثير من الأحزاب مجتمعة، حيث حصل شبه إجماع في وسائل الإعلام المغربية على تحميل المسؤولية لروابط الألتراس وأخواتها عن أحداث ملعب محمد الخامس وجل أحداث الشغب التي سبقتها في السنتين الماضيتين تحديداً، وبالتالي العمل على تهييج المغاربة ضدها فضلاً عن مباركة أية خطوة رسمية والمبالغة في تحريض السلطة على المضي في التصعيد إلى أبلغ مدى.
الثابت أن الصدمة التي تلحقها أية أزمة طارئة قد تؤدي إلى فقدان التركيز اللازم لمعالجتها وتغطي على لغة العقل لصالح الحلول المتشنجة والمتسرعة، هذا إذا كان التعامل بريئاً وبدون أية خلفية، فما بالك إذا كانت ثمة نية مبيتة لتصفية حسابات مع طرف معين بات يؤرق الجهات العليا في البلاد.
ما نعرفه أن إلصاق تهمة الشغب بالألتراس حصراً مغالطة يتم تمريرها بالضخ الإعلامي، مستغلين قصر ذاكرة البعض أو عدم الاطلاع الجيد للبعض الآخر بما كانت عليه الملاعب قبل ظهور الألتراس في منتصف العقد المنصرم، فالشغب أسبق وبالمناسبة هو بنفس القدر من الهمجية من الشغب الحالي، وهو مرافق للملاعب الوطنية منذ أن دخلت الكرة إلى المغرب على صعيد جميع المستويات من فرق الأحياء الشعبية إلى القسم الأول مروراً بالهواة والقسم الثاني، وحتى مسألة التنقلات التي تثار الآن ليست جديدة، ولم تأتِ بها الألتراس، فقد كانت الجماهير دائماً تتنقل في مجموعات حتى لو لم تنتظم في أية رابطة أو جمعية، وكان البعض منها يخرب كلما وقعت عليه عينه، حسب مزاجه الظرفي، كما هو الحال عليه اليوم تماماً.
الجديد في الموضوع هو الزخم الذي أصبح يقدمه الإعلام الجديد وما يفتحه من قدرات تفاعلية واسعة في أوساط شرائح مهمة من المجتمع، بخلاف الوضع السابق الذي كان يعرف أحادية واحتكار إعلامي رسمي، الشيء الذي لم يُعطِ لعدد من الظواهر حقها في تغطية إعلامية تليق بحجمها مثل شغب الملاعب، لا سيما أنه لم يكن يشكل هاجساً للمخزن يستدعي إثارة ضجة حوله، باعتبار أن أمن المواطن البسيط ليس أولوية ملحة للداخلية حتى تفكر في حل المشاكل المتعلقة به، كما أن الداخلية كانت متصالحة مع من يمارس هذا النوع من العنف، فالمعلوم أن مشجعي الكرة إلى وقت قريب كانوا جيشها الاحتياطي، يتم توظيفهم في عدد من المهمات، سواء من طرفها مباشرة أو من طرف عدد من المنتخبين واللوبيات المدعومين من طرفها.
هذا ما يفسر حقيقة حنق السلطة على الألتراس، وليست مسألة الشغب الذي كان من الممكن أن تتسامح معه جزئيًّا لو أن الألتراس قبلت بأن توظف من طرفها مثلها مثل العديد من الأحزاب والجمعيات، وما يفضح الداخلية في هذا الباب حرص المسؤولين الأمنيين كلما تحدثوا عن شغب الملاعب على إقحام بعض ممارسات الألتراس التي لا تروق لهم، رغم أنه لا علاقة لها بالموضوع، فحين يصر أولئك المسؤولون على التعبير عن استهجانهم للصوت الاحتجاجي الذي يطبع الشعارات والأهازيج التي باتت ترددها جماهير الألتراس نفهم من وراء ذلك أن للداخلية مآرب أخرى من كل هذه الزوبعة، كما أن تذمرها المتواصل من رفض روابط الألتراس الجلوس والتنسيق معها، يؤكد أنها تحس بأن عجرفتها وكبرياءها السلطوي قد جرح ونال منه صبية من جماهير الكرة، هي التي اعتادت أن تؤشر بالإشارة حتى تهرول إليها جل نخب البلاد وتنكسر لتعلمياتها قامات حزبية وفكرية وعلمية كثيرة.
إذن للداخلية مبرراتها في كسر شوكة الألتراس المختلفة عما يريده عامة المغاربة، وهنا يحق لنا مساءلتها ما دامت طرفاً غير نزيه ومشكوكاً في سلامة نيتها في معالجة الظاهرة حقًّا، خصوصاً أن الملاحظ أن وتيرة عنف الملاعب ازدادت بشكل كبير خلال الأشهر الماضية، بعد أول تصريح رسمي وصريح لوزير الداخلية عن الشغب وتهديده الواضح بحل الألتراس، ساعتها لم يصل العنف لهذا المستوى، وقد كان التصريح أقوى من حجم الظاهرة، بعده مباشرة تناسلت أحداث الشغب في عدد كبير من الملاعب المغربية، ولعلنا إن أخذنا أية حالة من الحالات الكبرى التي شغلت الإعلام، سنجد أن هناك تقصيراً أمنيًّا واضحًّا يصل حد الاستقالة الطوعية لأجهزة الأمن عن القيام بأدوارها التي لو التزمت بها لجنبت الجميع تلك الصدامات العنيفة دون حاجة لاستخدام القمع، أي أن الداخلية باختصار تعمدت نهج سياسة الحياد السلبي، وكل ما كانت تفعله هو إبعاد الجماهير عن مراكزها الحيوية، ثم تهيئة الأرضية للجماهير للتطاحن فيما بينهم بعد ذلك، وذلك حتى يتم تخويف المغاربة وتعبئتهم ضد جماهير الألتراس.
قبل تحميل المسؤولية لأي طرف بين الجماهير، علينا أن ننظر لمسؤولية مَن مهمته حماية أمن المواطنين، فلو أن أي جهاز أمني في العالم قلص من جهوده الأمنية ولو بنسبة بسيطة، لكانت النتيجة تلقائيًّا ازدياد حالات العنف والإجرام حتى في الدول الديمقراطية، فكيف بمن يتعمد إشعال الحرائق، ثم ماذا ننتظر من تجمعات للقاصرين يعانون من فراغ وأزمة هوية وهجمة شرسة لهدم أخلاقهم ونظام تعليمي مهترئ، ماذا ننتظر منهم أن يفعلوا حين يتركون لوحدهم في ملاعب للكرة بدون تأطير وإرشاد وبدون ضبط أيضاً.
ومع ذلك علينا التريث في إطلاق الأحكام جزافاً على كل الجماهير، فإذا قمنا بالتعرض لحالات الشغب، سنجد أنه من الصعب تحميل الألتراس المسؤولية المباشرة في الكثير منها، فليس كل من يدخل الملاعب من الجماهير ينتمي بالضرورة إلى مجموعات الألتراس أو البارا برافا، فهناك مجموعات وإن كانت صغيرة تمارس عدداً من الأعمال العنيفة وتتبناها بشكل مستقل، وهناك إشكالية التأطير لبعض الجماهير المنفلتة، فإذا كانت بعض الأحزاب والنقابات تعجز عن التحكم في جميع منخرطيها، فكيف سيكون الأمر عليه بين مشجعي الكرة، ولا ننكر أيضاً أن ثمة شغب تسأل عنه بعض روابط الألتراس، غير أنه لا يشمل جميع ألتراس المغرب، فأغلب حالات العنف تتورط فيها رابطتان أو ثلاثة، والتي عادة ما تتحرش ببقية الروابط الأخرى في كل مرة، حتى أن السلطة كانت تتسامح مع إجرامهم، بل وتتدخل على صعيد أعلى مستوياتها لتحل مشاكلهم في دول الجوار، بل إن الإعلام نفسه الذي يهيج الجماهير حالياً كان يغطي على أفعال تلك الروابط المدللة، لذلك لا يجوز التعميم ولا ينبغي أن تؤخذ جميع الألتراس بجريرة من يحس بنفسه فوق الجميع.
من خلال ما سبق يتضح أننا إزاء تجاوزات قد تكبر أو تصغر بحسب الظروف المصاحبة لأحداث العنف، لكنها لا ترقى لأن تحول الألتراس عامة إلى عصابات إجرامية هكذا ببساطة، كما تزعم الداخلية والأبواق التابعة لها، وهذا ما يستدعي تلافي وضع الألتراس في سلة واحدة، لأن استعداء الجميع سيكون له عواقب وخيمة، فتلك الفئات تملك عمقاً في الأحياء الشعبية وتضم شباباً غارقاً في التهميش والحرمان، وليس لديه ما يخسره، فضلاً عن أنه مستعد لتطوير خطابه والتصعيد من لهجته، مما ينذر بإشعال حرائق جديدة نحن في غنى عنها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.