الفلوجة …تجويع الاحرار

اليوم يحاصرون الفلوجة، بذريعة داعش، دون أن يقدموا دليلًا واحداً على أن صواريخهم وقذائفهم تستهدف الدواعش، إنها تذهب مباشرة إلى بيوت المدنيين، الذين لم يتمكنوا من الخروج من المدينة، فداعش ترفض.

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/26 الساعة 04:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/26 الساعة 04:04 بتوقيت غرينتش

قصتها طويلة، إنها مدينة لا تشبه إلا نفسها، طينتها تختلف، فهي تتشكل من فرات العراق، الذي يسري في عروق أبناء المدينة، فنشأوا إباة، لا ينامون على ضيف، وأيضاً كراماً، فقلوبهم قبل بيوتهم ترحب بالضيف، فهي ربما المدينة الوحيدة أو بين القلائل في العالم التي لا يوجد فيها فندق، فمن العيب على ضيفها أن ينام في فندق، فكل بيوت أهل المدينة فراش لضيفهم، هكذا كانت وهكذا عرفها كل عراقي قبل أن تعيد كتابة سيرتها عقب الغزو الأميركي عام 2003.
أتذكر يوم أن بدأت شرارة المقاومة العراقية، عقب الغزو الأميركي، وقتها سجلت هذه المقاومة نفسها بين كتب التاريخ كأسرع مقاومة، فلم تكد تمضي سوى سويعات قلائل على دخول الغزاة أبواب بغداد، حتى ثارت أولى العبوات الناسفة، لتثور معها روح عراقية أبت إلا أن ترد على جرح كرامتها، وقتها كانت الفلوجة تراقب.

قبلها، ويوم أن يمم العراقيون وتحديداً سكان العاصمة بغداد، وجوههم شطر النزوح، كانت الفلوجة، القريبة، أولى الحواضن التي تستقبل النازحين، يومها كان يمكن أن تشاهد الفلوجيين يقفون على أطراف الشارع الرئيسي يلوحون بأيديهم للهاربين من جحيم حرب لم تبدأ بعد، كانت أيديهم قبل ألسنتهم تناديك، تفضل، تفضل بيتي مفتوح.

لم ينم ضيفهم بلا عشاء، ولا بلا مأوى، كان الوقت مازال بارداً، دثرت الفلوجة يومها ضيوفها بدثار الألفة، بدثار الوطن الواحد، لم تسأل عن هوية القادمين، من أي مكون أو دين أو هوية، كانت وقتها تعرف أن الجميع عراقيون، لا فرق بين عراقي وآخر إلا بمقدار حبه لهذا الوطن.

عندما دخلت سنابك الأميركان الفلوجة استفزت المدينة، كان يوماً له وقع كريه في نفوس الأهالي، رفع الصغار أحذيتهم ملوحين للقادم الغريب، تلك الصورة التي ما زالت ينظر إليها كل عراقي بفخر شديد، حتى أولئك الذين طبلوا وزمروا للغزاة، عاد اليوم يبحث عن بقايا كرامته التي فرشها أرضا ليدخل عليها العابرون.

ثارت المدينة، لم تثر لذاتها الفلوجة الشماء، وإنما ثارت للعراق، كل العراق، الذي وجد نفسه وقتها مجروح الكرامة، فلثمت الجرح وبدأت تداري ألمه، فارتفعت وارتفع بها العراق، مدينة للمقاومة ورفض الاحتلال.

في 2004، وتحديداً بعد عام من الاحتلال الأميركي، أعلنت الفلوجة نفسها سيدة لكل مدن العراق، فهي الوحيدة التي أعلنت طهرها من المحتلين، كانت مدينة محررة، لا غزاة أو محتلين يدنسون تربتها، فكان أن رفع العراقي رأسه مرة أخرى، كل العراقيين، لا فرق بين عراقي وآخر، يومها صدحت أغاني الفخر بالفلوجة ومقاومتها من الجنوب قبل أن تأتي من الغرب والشمال العراقي.

12 عاماً كانت كافية لتفعل أميركا وإيران ومن حالفهما بالعراق، كل ما يمكن أن تفعله لتشويه صورة مدينة اعادت لنا شيئا من كرامتنا المذبوحة، لا لشيء، سوى لأنها كانت عصية عليهم جميعاً، عصية على جيش أقوى دولة في العالم، يوم أن راح وحشد قواته ليعود إلى الفلوجة بعد تسعة أشهر من إعلان تحررها، في نهاية 2004 لتستخدم فيها كل ما في جعبتها حتى تلك المحرمة منها.

اليوم يحاصرون الفلوجة، بذريعة داعش، دون أن يقدموا دليلًا واحداً على أن صواريخهم وقذائفهم تستهدف الدواعش، إنها تذهب مباشرة إلى بيوت المدنيين، الذين لم يتمكنوا من الخروج من المدينة، فداعش ترفض.

وعلى محيط المدينة، تنتشر القوات الأمنية والميلشيات، تمارس دورها الإجرامي بحق أكثر من 100 ألف مواطن فلوجي، فتمنع دخول المواد الغذائية، حتى جاع صبيهم، وصرخت بمر الشكوى فلوجية حرة لم يكن يسمع صوتها فيما مضى، ودمعت عين مسنها الذي ما اعتاد أن يرى مآذنها بلا تكبير، وهي التي كان لصوت الآذان فيها صدى يتردد، وكأنه قادم من السماء، فللمساجد هنا مدينة اسمها الفلوجة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد