إذا كانت الهجمات الأخيرة في بروكسل قد أظهرت شيئاً جديداً، فهو أن حجم الخطر الذي يشكله تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" على الغرب بشكل عام يفوق بكثير ما كان يظنه الغربيون.
الخطر الذي يمثله التنظيم لم يعد فقط هو إنضمام 5000 مواطن أوروبي قرروا ترك الراحة والأمان في بلادهم والإنتقال إلى سوريا والعراق وليبيا للإنضمام للتنظيم، ولم يعد يقتصر أيضاً على هجمات فردية لمتطرفين يحملون فكر التنظيم ويقومون ببعض الهجمات من تلقاء نفسهم دون تنسيق أو دعم من التنظيم، بل إن هجمات بروكسل قد جعلت الأمر واضحاً حول خطة الدولة الإسلامية لتوجيه ضربات مباشرة للغرب، وهو أمر أكثر تعقيداً وفتكاً بكثير من الهجمات السابقة ذات النطاق المحدود.
قد تكون حالة الفزع والقلق الكبرى لدى العامة أمراً مبرراً نتيجة لهذا الخطر الأعظم، إلا أن مسئولي مكافحة الإرهاب في الغرب لا يحق لهم الشعور بالدهشة ذاتها، فكل من كان منتهباً لسير الأحداث يدرك جيداً أن تنظيم الدولة الإسلامية قد أظهر توسعاً كبيراً في قدراته وما يقوم به منذ أكثر من عام، وفق تقرير أعدته مجلة فورين بوليسي الأميركية، الجمعة 25 مارس/آذار 2016.
المرحلة الأولى: التنظيم يدعو مؤيديه لتنفيذ هجمات فردية
بعد بدء الضربات الجوية للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لمواقع التنظيم في أغسطس/آب 2014، قام المتحدث الرسمي بإسم التنظيم –أبو محمد العدناني- بتوجيه رسالة إلى مؤيدي التنظيم يدعوهم فيها لتنفيذ هجمات بشكل فردي ضد أعداء التنظيم في الغرب ذكر فيها " إذا قدرت على قتل أميركي أو أوروبي، وأخص منهم الفرنسيين أو أي استرالي أو كندي أو غيرهم من أتباع التحالف الكافر ضد الدولة الإسلامية، فتوكل على الله واقتله بأية وسيلة أو طريقة".
منذ ذلك الوقت، بدء مؤيدوا وأتباع التنظيم بمحاولة تلبية هذا النداء، حيث كانت البداية من هجمات يناير/ كانون الثاني 2015 في باريس على مجلة شارلي إيبدو الساخرة ومتجر كوشير والتي سببت حينها الكثير من الجدل حول هوية المنفذين، والذين كان بعضهم من أنصار تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، وآخرين يتبعون تنظيم الدولة الإسلامية. إذا عدنا من جديد لتلك الهجمات، سنجد أن منفذيها، وعلى الرغم من أن التنظيمات التي يتبعون لها يخوضون حرباً ضد بعضهم البعض في سوريا، إلا أنهم قاموا بتنفيذ تلك الهجمات بشكل مستقل وكانوا جزءاً من ظاهرة الهجمات الفردية، فعلى الرغم من أنهم استمدوا أفكارهم من مجموعات موجودة بالشرق الأوسط، إلا أنهم قاموا بتنفيذ الهجمات دون تنسيق مسبق أو توجيه من تلك المجموعات.
التحول الخطير
الحلقة المفقودة بعد تلك الهجمات كانت التحول الخطير لعمليات "الدولة الإسلامية" في أوروبا، وهو ما كان يمكن رصده مع إكتشاف خلية إرهابية في فيرفيرس ببلجيكا بعد أسبوع واحد فقط من هجمات شارلي إيبدو. كان يجب أن تكون تلك هي اللحظة الفارقة لمسئولي مكافحة الإرهاب في أوروبا، وفي بلجيكا تحديداً، وخاصة بعدما تأكدوا من معلومات عن نية تلك الخلية تنفيذ هجمات واسعة النطاق في بلجيكا.
أثناء القبض على الخلية، عثرت الشرطة على أسلحة آلية ومواد كيميائية تستخدم في صناعة المتفجرات، وكاميرا يتم تثبيتها على الجسم، بالإضافة لعدد من الهواتف المحمولة وأجهزة الراديو وملابس الشرطة ووثائق مزورة وكمية كبيرة من المال. وأشارت المعلومات الواردة من أجهزة استخبارات أوروبية وشرق أوسطية أن الخلية كانت تستهدف تنفيذ هجمات كبرى في أوروبا، وتحديداً في بلجيكا، على الرغم من أنه بالتحقيق في أنشطة المجموعة، وُجِد أنها تمتد إلى فرنسا واليونان وأسبانيا وهولندا، وأن قائد تلك المجموعة هو عبد الحميد أبا عود، وهو من قام بإدارة الأمور من منزل آمن في أثينا باليونان، باستخدام هاتف محمول، في حين كان باقي الأعضاء ينتشرون في عدة دول أوروبية بحسب التحقيقات.
ووفقاً لتقرير إستخباراتي صادر عن وزارة الأمن الداخلي الأميركية، فإن الاشياء التي تم اكتشافها في السكن التابع للمجموعة يكشف عن نيتهم استخدام أسلحة صغيرة، وتفجير بعض العبوات الناسفة، بالإضافة إلى إنتحال صفة الشرطة. هنا، سريعاً ما أدركت السلطات الأوروبية أن التهديد الذي يواجه أوروبا لم يعد يقتصر على هجمات فردية لأشخاص اعتنقوا فكر بعض المجموعات بشكل منفصل دون تنسيق، ليمتد الخطر ويشمل مقاتلين مدربين وذوي خبرة ويقومون بالتنسيق فيما بينهم لشن الهجمات والتي يديرها في النهاية تنظيم الدولة الإسلامية.
كثفت السلطات جهودها للقبض على قائد المجموعة، عبد الحميد أبا عود، والمعروف أيضاً بإسم أبو عمر البلجيكي، وعلى الرغم من تلك المطاردة الكبرى، استطاع أبا عود الهروب من بلجيكا والتوجه إلى سوريا، قبل أن يعود إلى بلجيكا في وقت لاحق، في الوقت الذي تحدث فيه عن هربه بمنتهى الفخر في لقاء لمجلة دابق، والتي تعد المجلة الرسمية للتنظيم، حيث قال في اللقاء "لقد كان اسمي وصورتي في كل مكان وفي الأخبار، ومع ذلك استطعت البقاء في أراضيهم والتخطيط للعمليات ضدهم ثم المغادرة بأمان عندما أصبح ذلك ضرورياً".
الخطر يزداد
ازداد وضوح هذا الخطر الأكبر على أوروبا تدريجياً. في أبريل/ نيسان 2015، ألقت السلطات الفرنسية القبض على أحد أعضاء تنظيم الدولة الإسلامية بعدما طلب المساعدة الطبية لأنه أصاب نفسه بطلق ناري عن طريق الخطأ، في حين عثرت السلطات في شقته على أسلحة وذخيرة وبعض الملاحظات المكتوبة حول أهداف محتملة، من بينها كنائس، وكشفت التحقيقات أنه تم تكليفه للقيام بتلك الأعمال من داخل سوريا، طبقا لما أعلنه فرانسوا مولينس، النائب العام الفرنسي، في حين كشفت وثيقة مخابراتية أميركية فيما بعد عن وجود علاقة بين الرجل وبين أبا عود، وأنه كان قد صرح سابقاً برغبته في السفر إلى سوريا.
في مايو/ أيار 2015، أشارت وكالة إنفاذ القانون الأميركية إلى وجود تحول جذري في طبيعة التهديد الذي يشكله تنظيم الدولة الإسلامية على أوروبا، ففي الوقت الذي كانت الهجمات تنظم بشكل فردي دون تنسيق حتى ذلك الوقت، استطاعت المخابرات الأميركية التوصل إلى أن الخطط المسقبلية للتنظيم ستكون على شاكلة خلية فيرفيرس، حيث عزز وجود شبكة كبرى وراء تلك المجموعة من ظنون سلطات مكافحة الإرهاب في الولايات المتحدة وأوروبا ولفت انتباههم نحو ضرورة تنظيم الجهود وتبادل المعلومات بين الجهات المختلفة، إلا أن التنفيذ الحقيقي لم يكن بالسرعة المطلوبة.
ازداد نشاط المجموعات التي يديرها تنظيم الدولة الإسلامية خارج قواعده بشكل كبير خلال الصيف الماضي، ففي منتصف أغسطس/ آب، تم إلقاء القبض على شخص خطط أثناء محاولته تنفيذ هجوم على أحد الحفلات في فرنسا. كان الرجل قد عاد لتوه من رحلة استمرت 6 أيام فقط في سوريا، وأخبر الشرطة بأنه تلقى أوامر بتنفيذ الهجوم من رجل أوصافه تتطابق مع أبا عود. وفي وقت لاحق من الشهر ذاته، استطاع بعض الجنود الأميركيين (خارج خدمتهم) السيطرة على شخص حاول تنفيذ هجوم على قطار تاليس المتجه من أمستردام إلى باريس، حيث تصادف وجودهم داخل القطار نفسه.
الضربة العميقة
في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، كان الحظ المتكرر للسلطات قد نفذ بالفعل، لتقع هجمات باريس الكبرى والتي تمت بواسطة مجموعة تابعة لتنظيم الدولة الإٍسلامية على مستوى عالٍ من التدريب والتأمين. طبقاً لوثيقة استخباراتية أميركية، فقد أظهرت هجمات باريس درجة أكبر من التنسيق واستخدام تكتيكات مختلفة أدت إلى تلك العملية الكبرى التي تفوق جميع عمليات التنظيم السابقة على الغرب، وهو ما أشاروا في وقت لاحق أنه سيكون أمراً متوقعاً منذ تلك اللحظة.
وفقاً لتقرير مكافحة الإرهاب الصادر عن وكالة تطبيق القانون الأوروبية (اليوروبول)، فقد شكلت هجمات باريس تحولاً واضحاً في اتجاهات تنظيم الدولة الإسلامية تجاه الخارج في عملياتهم الإرهابية، كما ذكرت أن التنظيم قد أصدر أوامره بالتحرك في الخارج لأعضاء تابعين، وأن هؤلاء لديهم تدريب خاص على تلك العمليات وتنفيذها في البيئة الدولية. كان تحذير الوكالة لأوروبا صارخاً للغاية، حيث قالت "كل الأسباب تشير إلى أن تنظيم الدولة الإسلامية قد يوجه أعضاء تابعين أو متعاطفين معه إلى تنفيذ هجمات إرهابية جديدة في أوروبا، وتحديداً في فرنسا، وأنه من المتوقع أن تستهدف الهجمات المدنيين بشكل أساسي".
إذا لم يكن تطور منهج الدولة الإسلامية وخطرها على أوروبا قد بدا واضحاً في هجمات باريس، فقد أصبح الأمر أكثر وضوحاً بعد تفجيرات بروكسل الأخيرة. إلا أنه على الرغم من أن أوروبا قد أدركت ذلك بشكل واضح حالياً، فهي مازالت غير جاهزة للتعامل مع هذا الخطر الكبير، حيث توجد الكثير من أوجه القصور في طرق مكافحة الإرهاب لدى الدول الأوروبية فضلًا عن جهودها لدمج المهاجرين في المجتمعات الأوروبية التي يعيشون فيها.
عجز الأجهزة الأمنية الأوروبية
ظهر ذلك القصور بشكل واضح في عجز الأجهزة الأمنية الأوروبية عن العثور على صلاح عبد السلام لمدة 4 أشهر منذ تنفيذ هجمات باريس في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، كما أن التقرير الأخير الصادر عن وكالة التنسيق الأوروبية لمكافحة الإرهاب يشير إلى عدم وجود إتصال إلكتروني بالإنتربول على حدود بعض الدول الأعضاء في الوكالة حتى الآن. كان التقرير واضحاً للغاية بشأن هذا الأمر، حيث رأى أن حجم التنسيق الحالي لتبادل المعلومات لا يتناسب على الإطلاق مع حجم الخطر الحالي. كمثال واضح لهذا الأمر، لم تسجل قواعد البيانات لدى الإتحاد الأوروبي لأعداد المقاتلين الأوروبيين في التنظيمات الجهادية سوى 2786 حالة، على الرغم من أن التقديرات تشير إلى قيام 5 آلاف مواطن أوروبي بالإنتقال إلى سوريا والعراق للإنضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية وغيرها من المجموعات المتطرفة بحسب التقرير. الأمر الأسوأ هو أن 90% من التقارير حول المقاتلين الأجانب لم تأتي سوى من 5 دول أوروبية فقط.
تحديات أوروبا الكبرى لمواجهة التنظيم
من جانب آخر، تبدو تحديات إدماج المهاجرين إجتماعياً في الدول الأوروبية صعبة للغاية. في بلجيكا بالخصوص، تبدو الإدارة معقدة للغاية، وخاصة مع النظام الفيدرالي المتشدد للحكومة، والذي لا يقسم البلاد إلى درجات محلية وإقليمية وفيدرالية فقط، ولكن على أساس جغرافي ولغوي وثقافي أيضاً. ولكن بشكل عام في أنحاء أوروبا، يبدو حل مشكلة التجاهل الذي استمر طويلاً للمهاجرين أمراً يحتاج للكثير من المال والوقت، وكلاهما ليس متاحاً على المدى القريب.
في الوقت ذاته، يبدو هذان التحديان –محاربة الإرهاب والعمل الإستخباراتي من جهة والإصلاحات الإجتماعية والإقتصادية ودمج المهاجرين من جهة أخرى- مترابطين لدرجة التعقيد، فالعوامل الاقتصادية ليست السبب الأول للتطرف، وفق رؤية المسئولين في بلجيكا، إلا أن السبب الرئيسي هو ما يواجهونه من أزمة في الهوية نتيجة لنقص الفرص والتفكك الأسري والضغوط النفسية، بالإضافة إلى الضغوط الثقافية والدينية. ومع نسب بطالة تصل إلى 30%، ليس من المفاجئ أن يكون من يجندون الشباب للإنضمام لتنظيم الدولة الإسلامية في بلجيكا غالبيتهم من المجرمين حديثي العهد، فأحد أعضاء خلية مولنبيك على سبيل المثال، والذي يخضع للسجن حالياً، قام بالتواصل مع عدد من الشباب في منطقته من خلال المساجد وأقنعهم بالتبرع بنسب صغيرة من عائدات جرائمهم الصغيرة لتمويل سفر المقاتلين إلى سوريا.
يمكن القول بأن هؤلاء المجرمين الصغار اليوم هم إنتحاريون محتملون في الغد، وأنهم لن يقوموا بتنفيذ هجماتهم في مناطق بعيدة للغاية، بل في قلب الدول التي نشأوا فيها. كان تقرير الإستخبارات الأمريكية الصادر بعد هجمات باريس قد حذر بوضوح من أن تورط عدد كبير من نشطاء وقادة المجموعات في عدد من الدول بعلاقات مع تنظيم الدولة الإسلامية سيؤدي في المستقبل إلى عقبة كبرى في كشف أنشطتهم ومحاولة إيقافهم. وعلى الرغم من كون هذا الأمر واقعاً، إلا أنه لا يمثل سوى نصف المشكلة، في حين أن التحدي الأكبر الذي يواجه الدول الأوروبية حالياً هو مواجهة الأوروبيين التابعين لتنظيم الدولة الإسلامية، والذين يتم إعدادهم حالياً داخل حدود أوروبا.
هذه المادة مترجمة بتصرف عن مجلة Foreign Policy الأميركية.