كنتُ في الصف الثاني الإعدادي عندما قرأت الإعلان على باب غرفة الإخصائية الاجتماعية عن رحلة إلى "الوادي الجديد"، تلك المحافظة البعيدة جدًّا عن العاصمة، القاهرة التي أسكنها وأسرتي.
لم أكن أسافر مع أسرتي كثيراً، وكان بداخلي شوق للسفر، لم أعلم سببه وقتها أو الآن، ذهبت إلى منزلنا يومها وأخبرت أمي عن الرحلة، فلم تمانع، وفي اليوم التالي حملت المصروفات اللازمة وذهبتُ لتسجيل اسمي.
في يوم السفر خرجت من منزلنا مبكراً والنور لم يخرج بعد إلى السماء، لامس قلبي وقتها إحساس لا يمكن وصفه، لا أعلم كيف شعر سيدنا آدم عندما نزل إلى الأرض، لكن ربما هو إحساس مشابه! وكأنني مخلوق هبط للتو إلى كوكب جديد وتأخذه نشوة الإقدام على استكشاف الكون.
لا أذكر الكثير من تفاصيل هذه الرحلة الآن، زرنا مصنعاً للبلح وآخر للسجاجيد، أما التفصيلة الأكثر وضوحاً في ذاكرتي هو البرد الشديد الذي هب في إحدى ليالي الرحلة التي امتدت أسبوعًا.
لم يكن لديّ أيّ خبرة في الاستعداد لتقلبات الجو في السفر، هاجم برد صحراء الوادي الجديد جسدي الضعيف فارتجفتُ، لاحظتْ ذلك زميلة جميلة أذكر اسمها جيدًا "شدوان"، اسمها محفور في ذاكرتي حفرًا، فأحضرت لي "بلوفرين" من الصوف لاختار أحدهما، فاخترتهما معاً وارتديهما لأنعم بالدفء.
رحلة الصِّبا الأخرى كانت إلى الإسكندرية، معسكر صيفي للفتيات نظمته الإدارة التعليمية لمحافظة القاهرة، التي كانت تتبعها مدرستي، "مدرسة الأميرة فوزية الإعدادية للبنات" التي تقع في شارع 9 بالمعادي.
وقتها كانت المرة الأولى التي ألتقي فيها فتياتٍ من خارج منطقتنا السكنية، لم أذهب في هذه الرحلة وحيدة، كما سيحدث لاحقًا في عشرات الرحلات، ذهبت في صحبة الرفيقتين "شيماء" و"سماح".
كان للمعسكر قواعد صارمة، ولم يكن مسموحاً لنا بالخروج بمفردنا دون مصاحبة المشرفات.
غير أننا في أحد الأيام أردنا التمرّد، "التمرد المرن" بالطبع، وبالطبع استلزم الأمر كثيراً من الحيلة والإلحاح حتى وافقت المشرفات لنا أن نذهب لرؤية غروب الشمس على شاطئ البحر وحدنا ودون رقابتهن.
خرجنا من "فندقنا" إلى الشاطئ، الفندق الذي لم يكن سوى إحدى المدارس الحكومية التي تتحول في فصل الصيف في الإسكندرية إلى مكان إقامة للرحلات المدرسية، ذهبنا إلى الشاطئ.. ألقينا تحية الوداع على الشمس وهي تغادر الإسكندرية في ذاك اليوم وعدنا.
قد تبدو هذه الذكريات ساذجة، لكنني إلى الآن عندما أذهب لملف الصور القديمة، وأرى تلك الابتسامة الواسعة على وجهي وصديقتيّ الصبا على الشاطئ ونحن نلتقط الصورة، تزهر الذكريات وينتعش القلب.
ذهبت أيضاً في نفس الفترة الدراسية إلى معسكر في "مرسى مطروح"، وكانت المرة الأولى التي أذهب فيها لتلك المحافظة البعيدة، وأول مرة أرى فيها "عجيبة" تلك المنطقة الفريدة في جمالها بجبالها وزرقة بحرها، بحر مطروح المتميز.
أهم الدروس التي تعلمتها في رحلة "عجيبة" كانت عندما خرجنا جميعاً للجرى في أحد الصباحات، وبعدما انطلقتْ صافرة البدء، صرتُ أركض بقوة، حتى لحقتني أبلة الألعاب -علمت مؤخًرا أن لقب "أبلة" الذي كنا ننادي به معلماتنا في مصر تعني باللغة التركية الأخت الكبيرة- وهمست لي بنصيحة بين أنفاسي وأنفاسها المتلاحقة، أنني على أن أبطئ الجرى المتلاحق وأرشد طاقتي، على أن أكثفها قرب النهاية، وقت يكون المنافسون أنهكهم المسار.
أتذكر هذه الحكمة كلما تباطأت خطواتي في أحد المسارات قرب النهائية متذكرة حماس البدايات.
ربما لا أتذكر كثيراً الآن ما حدث في هذه السفرات المدرسية، لكنني أتذكر أنها أشعلت في قلبي هذا الولع بالسفر والترحال وملاقاة الغرباء المختلفين عنا والتواصل معهم، وأن هذا السفر والترحال هو ما جعل من روحي قطعة من "الموزيك" الملون بها أثر كل من مررت به وما مررت به.
أشكر بحق والدىّ الذين سمحوا لي بهذه السفرات المبكرة، وقت كانت كثير من الأسر تمنع فتياتها من هذه الفرصة، حرصاً على تقاليد مجتمعية تقيد سفر الفتيات.
لاحقاً ومع العمل الصحفي سوف يصبح السفر جزءًا من الحياة، ومن السفر سوف أتعلم كل دروسي التي لم أتعلمها في صفوف المدرسة، سوف أقابل في السفر الأستاذة الحقيقيين، وأفعل أشياء ظننت أنني لن أفعلها أبدًا.
لاحقاً سأعرف أشياء مهمة، منها أننا في السفر لا نعبر المسافات، أو المساحات، بل نعيد اكتشاف أنفسنا بشكل أو بآخر، نحاول فيه عبور تلك الجدران المحيطة بالقلب، الجدران التي بنينا جزءاً منها، وولدنا بالجزء الآخر، جدران التقاليد والمعرفة الأوّلية عن العالم التي تعلمناها من محياطاتنا الأولى.
لاحقاً سيكون زاد الرحلة الوحيد هو الرغبة في السير والرؤية، هو ذلك القلبٌ الشغوف بالرحلة، البعض يسافر سعيًا للرزق أو للعلم أو ملاحقة للحب، نعم سافرت لكل الأسباب السابقة -مع التحفظ على السبب الأخير- لكن كانت الأسباب الأخرى أسباب هامشية، كان السفر هو السبب.
تلك الرحلة التي بدأت بخطوات قصيرة وضعيفة كخطوات فرخ وليد ستمتد لخطوات أخرى أنثرها على نهر"دجلة" في بغداد ونهر "هاندسون" في نيويورك وأنهار العاصمة الروسية التي ما بقت في ذاكرتي حروف اسمها، وطرقات كلما وطأتها تذكرت الآية الكريمة: "وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس"- صورة النحل الآية 7.
هل مللتم؟ أم اشتقتكم لسماع بقية الحكايات عن الرحلات؟
أيًّا كانت الإجابة، لا أترككم هذه المرة دون أن أقص عليكم حكاية الرحلة الأولى إلى السماء، أول مرة يرتفع فيها جسدي عن الأرض، عندما حلقت من القاهرة لـ"أسيوط" في عام 1997.
يومها تسللت لكابينة القيادة وأقنعت مضيفة الطيران أنني "صحفية مهمة جدا" -أضف هنا وجهاً مبتسماً- وأنني في "مهمة هامة للغاية" ولا بد أن أتحدث إلى قائد الطائرة، فسمحوا لي بدخول قمرة القيادة والتحدث إلى قائد الطائرة، فأجريت معه حوارًا صحفيًّا عن أمور لن يختلف الأمر كثيراً لو تحدثنا فيها في مقهى أو عبر الهاتف، لكن تحقق ما أردت، رأيت السماء من قمرة القيادة كما لم أراها من قبل.
في تلك الرحلة إلى "أسيوط" وبعد أن أنهيتُ مهمتي الصحفية -وكنت قد تركت حقيبتي في مكتب الجريدة التي أعمل بها- ذهبت هرولة لمحطة القطار وكنت أعلم موعد مرور القطار الذي عليّ أن أستقله إلى "الأقصر" لأبيت ليلتي هناك، وكان الخيار بين أمرين، إما أن ألتقط حقيبتي من المكتب، وإما أن ألحق القطار وأترك حقيبتي في "أسيوط".. فماذا فعلت؟
توجهت لمكتب ناظر المحطة وأبلغته أنني صحفية من هذه الجريدة، وأنني في مهمة وعلى أن ألحق مهمة أخرى شديدة الأهمية، الأمر لم يكن بعيدًا عن الحقيقة، هي المشاركة في الاحتفال الذي أقامته مصر لتأبين شهداء مذبحة معبد حتشبسوت، وكانت المرة الوحيدة التي أكون فيها في حضرة الرئيس المخلوع الغير مبارك.
تحدثت لمدير محطة القطار بذلك الصوت المذعور الذي يلازمني أحيانًا، وقلت له إنني لابد أن أستقل القطار ولكن عليّ أيضاً أن ألتقط حقيبتي التي تركتها في مكتب الجريدة، فوعدني أن يجعل القطار ينتظرني، هرعت إلى المكتب لإحضار الحقيبة ولستُ متأكدة تماماً من جدية وعده لي.
وعندما عدتُ للمحطة حاملة حقيبتي، ووجدت القطار في انتظاري، وناظره يقف على بابه في انتظار حضوري، وقتها علمت أن الحياة "يحدث فيها أشياء لم يحلم بها المرء قط" كأن ينتظرك القطار مثلاً!
مخاوفي في السفر كثيرة أكثرها إزعاجًا كان أن تفوتني الطائرة.
استمر الخوف حتى وقع ما كنت أخشاه، فاتتني الطائرة ذات صباح في مطار "برشلونة"، ثم فاتتني في القاهرة عندما منعني ازدحام مرور القاهرة بعد إفطار شهر رمضان من الوصول للمطار في الموعد.
ثم فاتتني في مدينة "سان فرانسيسكو" عندما أخطأت موعد الوصول وتخيلته موعد الإقلاع، وفاتتني عندما تركتني في "نيويورك" وذهبت إلى "ميتشغان" عندما تأخر إقلاعنا ذات يوم في "إسطنبول" قادمة من "القاهرة"..
يقول الناس لك إنه عندما يحدث ما تخشاه يذهب خوفك، لا تصدقهم، ليس بالضرورة، ما زلتُ أخشى فوات الطائرت، وأتوتر وأقلق عندما تظهر بوادر لاحتمالية حدوث ذلك، ويأكلني ويشربني الرعب من أمور من المفروض أن تبقى بسيطة.
ما زال يتعبني تعبئة الحقائب وإفراغها، يعذبني دوران اليومين الأخيرين قبل العودة من السفر، أقضيها في إنهاء أمور أو التقاط الهدايا، ينهكني حمل الحقائب التي -كمواطنة مصرية أصيلة- ما تعودت أن أخفف منها قط!
.. لكنني أحب السفر وهو يحبني..
ووهبني من إحسانه نداهته الطيبة، التي لا أعصي لها أمراً وألبّي كلما جاء النداء..
عن السفر والبشر والأمكنة.. عن البلاد والعباد نكمل
* هذه التدوينة جزء من كتاب قيد النشر بعنوان"رحلات بنت حمامو"
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.