قارن أحد معجبي الرئيس السوري بشار الأسد بينه وبين شارل ديغول، الزعيم الفرنسي العنيد الذي يتمتع بثقة تكفي لتحدي الولايات المتحدة، وهي الحليف الأكثر قوة، حتى بعد مساعداتها الحاسمة ضد ألمانيا النازية.
ويعرض المنتقدون وجه شبه آخر بأسطورة العقرب الذي أقنع الضفدع بأن يحمله ويعبر به النهر، ثم قام بلدغه وغرق كلاهما. روسيا هنا هي الضفدع بعد أن أنقذت الأسد من خلال ضرباتها الجوية، وهي تسبح الآن من أجل التوصل إلى تسوية سياسية للحرب السورية، وتأمل في استعادة مكانتها مجدداً كقوة عظمى، ومع ذلك، ونظراً لتاريخ الأسد، فقد يُغرق المفاوضات ويوضح أن عقد الصفقات ليس من طبيعته، بحسب ما ذكر العديد من الدبلوماسيين، ونقلت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية في تقرير نُشر الخميس 24 مارس/آذار 2016.
ومنذ إعلان الرئيس فلاديمير بوتين المفاجئ الأسبوع الماضي عن تراجع حملة الضربات الجوية التي يشنها في سوريا، تتأرجح التوقعات بشأن ما إذا كانت خطوة بوتين التالية تتمثل في إجبار الأسد على التوصل إلى تسوية سياسية فعالة من أجل إنهاء الحرب.
تعزيز قوات النظام
ورغم أن اعتماد الأسد على روسيا عسكرياً ومالياً وسياسياً لم يتزايد إلا خلال الضربات الجوية التي شنها بوتين على سوريا على مدار 6 شهور، فقد دعمت الحملة أيضاً ثقة وطموحات الأسد، حيث أدت إلى تعزيز تواجد قوات الحكومة السورية على الأرض.
وقال ديفيد ليش، أحد كُتاب سيرة الأسد الأستاذ بجامعة ترينيتي في سان أنطونيو: "من الواضح أن بوتين يعتقد أن سوريا تحتاج إلى روسيا بصورة أكبر من احتياج روسيا لسوريا. ومع ذلك، ربما أن الأسد ودوائره الداخلية يعتقدون بكل غطرسة أن الأمر خلاف ذلك".
تولى الأسد الرئاسة عام 2000 بعد وفاة والده، الذي سيطر على الحكم لمدة 30 عاماً. ويعتمد الأسد على زمرة صغيرة حاكمة، معظمهم من أفراد العائلة والمسؤولين الأمنيين. وبينما يبدو انسحاب بوتين بمثابة مفاجأة للمسؤولين السوريين، إلا أنهم سرعان ما أخبروا الدبلوماسيين بأن الدعم الروسي لم يتراجع ورفضوا إقرار وجود أي ضغوط تتم ممارستها عليهم.
ووصفت بشرى خليل، المحامية اللبنانية التي تحظى بعلاقات طويلة الأجل مع مسؤولي الحكومة السورية والتي التقت بكبار المسؤولين السوريين مراراً خلال الأسابيع الأخيرة، بما في ذلك وزير الداخلية وأحد كبار مسؤولي الاستخبارات (علي مملوك) وصفت أسلوب عمل هؤلاء المسؤولين بكونه نشيطاً للغاية.
وذكرت خلال لقاء جرى أخيراً أن مستشاري الأسد يعتقدون أنه لم يتجاوز فترة الخطر فحسب، بل سيظل رئيساً لسوريا؛ وكذلك فإن قدرته على مواجهة العالم بأسره ستجعله أكثر شهرة من ذي قبل ليصبح "زعيماً في المنطقة".
علاقة وثيقة مع إيران
وأضافت قائلة إنهم يصرّون على أن روسيا حازمة ومخلصة ولكنهم يحملون بطاقة تأمين، وهي علاقتهم الوثيقة بإيران وقدرتهم على التلاعب بحليفين مختلفين تماماً.
وذكرت خليل، التي اشتهرت بدفاعها عن صدام حسين خلال محاكمته في جرائم الحرب التي اقترفها في العراق، قائلة: "إنهم يشبهون رجلاً لديه زوجتان. وهناك صفات يحبها في كل زوجة".
وتعد خليل، التي قارنت الأسد بديغول، واحدة من مؤيدي الأسد منذ عهد طويل، ولم تكن اجتماعاتها مع المسؤولين تتعلق بالحرب، بل بإحدى القضايا التي تورَّط بها ابن معمر القذافي، الدكتاتور الليبي الراحل.
ومع ذلك، فإن وصفها لأسلوب عمل الدوائر الداخلية قد انعكس على العديد من المؤيدين والمعارضين، الذين التقوا بالأسد أو مستشاريه وحلفائه خلال الشهور الأخيرة. ويتضمن هؤلاء علماء ومسؤولي مساعدات إنسانية ودبلوماسيين ومسؤولين سوريين مرتبطين بالتحالف الموالي للحكومة والذي يضم إيران وروسيا وحزب الله. وقد تحدث معظم هؤلاء – بشرط عدم ذكر أسمائهم – من أجل الحفاظ على إمكانية الوصول إلى مسؤولي الحكومة أو لتجنب أي عمليات انتقامية.
ووصف هؤلاء المسؤولون مراراً وتكراراً خلال لقاءات منفصلة القيادة بالحنكة في التلاعب بحلفائها، وغالباً ما ترفض التسويات حتى في أشد حالات الإخفاق؛ وفي حالة الاضطرار لإجراء أي صفقات، تتولى تأجيلها وتعقيدها لكسب الوقت لحين تحسن موقف الأسد.
ويبدو أن بوتين مُصرّ على العودة إلى الساحة العالمية منتصراً من خلال التوصل إلى حل سياسي لسوريا بالتعاون مع الولايات المتحدة. وذكر العديد من الدبلوماسيين أن روسيا قامت بتعريف الانتصار باعتباره حلاً قابلاً للتفاوض يستند إلى بقاء الأسد في السلطة – ما يوضح أن طموحات الغرب في تغيير نظام الحكم قد أخفقت – ومع ذلك، يمكن أن يدعم بوتين اتفاقاً يساعد على خروج الزعيم السوري من الحكم أو تقليص سلطاته في مرحلة لاحقة.
إرضاء بوتين
ورغم أن إيران تبدو أكثر تعاطفاً مع بقاء الأسد في سدة الحكم، إلا أنه أصبح من الواضح أن الدعم الإيراني دون الضربات الجوية الروسية لن يكفي لمساعدة قوات الحكومة السورية على التقدم، رغم تواجد الآلاف من القوات البرية التابعة لحزب الله والميليشيات الأخرى الموالية لإيران.
ومن ثم، فمن الأرجح أن يدرك الأسد أنه يتعين عليه المشاركة في العملية السياسية، على الأقل لإرضاء بوتين، بحسب ما ذكره ليش، كاتب السيرة الذاتية للأسد الذي كان يقوم بزيارته باستمرار فيما بين عامي 2004 و2009 والتقى بكبار مسؤولي الحكومة السورية وأعضاء المعارضة منذ اندلاع الحرب الأهلية عام 2011.
وذكر ليش أن الحكومة السورية رغم ذلك تمكنت من تعقيد العملية والرفض 49 مرة، ثم الموافقة في المرة الخمسين، بما يشير إلى أن الأسد يعتقد أنه يستطيع التلاعب بأسلوب يحفظ له السيطرة والسلطة.
ويذكر المحللون أن هناك مشكلة أخرى تتمثل في أن الأسد ووالده من قبله قد رسَّخا نظاماً يعتمد على زعيم واحد، دون وجود مؤسسات قوية أو نواب. ويعتقد البعض أنه نظام هشّ للغاية حتى أن أي تسوية من الأرجح أن تطيح به، ذلك هو التقييم الذي أدى بالأسد إلى الإطاحة بالمعارضين بدلاً من قبول إدخال تعديلات سياسية من البداية.
بقي الرئيس الأسد الناجي الأكبر والأخير، فقد صمد طوال 5 سنوات من المتاعب بدءاً من احتجاجات سياسية تزامنت مع بقية الحركات الثورية التي عمَّت الشارع العربي مدعومة دعماً أميركياً، ثم تحولت الاحتجاجات إلى حرب بالوكالة قتلت مئات الآلاف وهجّرت نصف الشعب السوري.
أخطأ خصوم الأسد إقليمياً وعالمياً في تقييم جاهزيته واستعداده للدفاع عن سلطته، كما أخطأوا كذلك في تقييم قدرته وقدرة بطانته وأعوانه المخلصين على البقاء.
وزير الداخلية السوري، محمد الشعار، يجلس وينام داخل مكتب محشو بالأوراق، يعمل لساعات طوال رغم تعرض حياته 3 مرات للقتل، مرة بالسم ومرتين بقنبلة نجحت إحداهما في التسبب بعاهة في يده اليمنى حسب ما قالته لنا خليل المقربة منه.
توفي صهر الرئيس الأسد آصف شوكت في تفجير عام 2012 مع 3 مسؤولين أمنيين كبار. أخوه ماهر أصيب إصابة شوهته، لكنه ظل قائداً عسكرياً قوياً. أما الرئيس الأسد نفسه فمازال يعقد الاجتماعات في قصر المناسبات المطل على دمشق في ظل النزر اليسير من القوات الأمنية، ما حدا بكثير من زوّاره مؤخراً إلى المداعبة، قائلين إنهم لكانوا اقتحموا المكان مسلحين بمسدس ما.
وكذلك أخطأ الأعداء والخصوم بتقييم إرادة السواد الأعظم من المواطنين السوريين العاديين – الذين منهم من لا يحب الأسد – بإيثار الصمت والهدوء خشية المجازفة ببدائل غير مأمونة الجانب ولا مضمونة الأصل.
استغلال عامل الوقت
يمتاز الأسد باستنفاده كامل الوقت لصالحه، فمسؤولوه دائماً يأتون إلى محادثات السلام رافضين المفاوضة. يعدون عموماً بتسهيل مرور المساعدات الإنسانية في حين يرفضون معظم الطلبات المحددة. كان الأسد قد وافق عام 2013 بتهديد من تدخل عسكري أميركي على تفكيك وإزالة ترسانة سوريا من الأسلحة الكيميائية، لكن الهجمات التقليدية على المناطق الآهلة والاتهامات باستخدام غاز الكلور ظلت على حالها.
مع مرور الوقت ظهرت قضايا مثل ظهور تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" على الساحة وبدء أزمة المهاجرين بالتسرب إلى أوروبا، فتصدرت هذه أولويات الدول الغربية بدلاً من رحيل الأسد، فما عادت الولايات المتحدة تصر على رحيله مع بداية الانتقال السياسي.
يرى الأسد وحلفاؤه أن الغرب توصل أخيراً إلى استنتاج أنهم بحاجة له للسيطرة على حدود سوريا لمحاربة "داعش" ووقف سيل اللاجئين، وفق أقوال مسؤول من داخل التحالف الموالي للحكومة.
ويعول مؤيدو الأسد جزئياً على التشقق والتصدع الذي سببته الحرب بقولهم إنهم لا يظنون أن روسيا ستجد ممثلي معارضة على استعداد لتشارك السلطة مع الأسد، وترضى عنهم كل الأطراف.
وفي الوقت نفسه يرى مواطن سوري مُوالٍ للحكومة رغم انتقاده الشديد للأسد أن الأسد وأعوانه كثيراً ما يختبرون صبر حلفائهم الذين هم في أمسِّ الحاجة لهم. ويقول هذا السوري – الذي كثيراً ما يتكلم مع المسؤولين – إن الحكومة عالقة مع إيران في أمور الفواتير، ومع حزب الله في أمور الأرض وبسط النفوذ عليها، ومع روسيا في أمور الأداء العسكري.
لا جديد في ذلك. يروي لنا دبلوماسي محنكٌ ذو خبرة وتاريخ طويلين في المنطقة أن دبلوماسياً بريطانياً سأل السفير السوفييتي خلال ثمانينيات القرن الماضي عن علاقة دولته، القوة العظمة، بوالد الأسد، الراحل حافظ الأسد، فأجابه السوفييتي: "يأخذون كل شيء من عندنا، إلا المشورة".
القومية العربية
كثيرٌ من المسؤولين السوريين متشبعون بالوطنية والقومية العربية، وكثيرٌ منهم تلقى تعليمه في موسكو، ولذلك يرتاحون مع روسيا العلمانية ومحافظتها على مؤسسات الدولة، لكن الكثيرين أيضاً يُجلّون ويقدرون في إيران أنها دولة دينية ملتزمة بحرب طويلة في سوريا وملتزمة بسياستها القائمة على مواجهة إسرائيل.
حاولت كثير من الشخصيات المطلعة المرموقة والموالية للأسد التقرب من أميركا وتقريبها أيضاً، بيد أنهم جميعاً أبدوا آمالاً غير واقعية وفشلوا في إدراك كم يبدو موقفهم وحشياً في عيني واشنطن، حسب ما قاله خبير غربي ومسؤول سابق التقى الأسد ومستشاريه الربيع الماضي.
لكن المسؤولين الغربيين الذين عوّلوا على حدوث انشقاقات داخل الصف الداخلي للأسد كانوا هم أيضاً حالمين غير واقعيين أبداً في ذلك، حسب ما قاله الخبير ذاته، فالدعم الروسي لابد قضى على أية مخاوف لعلها ساورتهم خشيةً على حياتهم ومصيرهم وكادت يوماً ما تدفعهم للانشقاق.
أما ليش المؤرخ ومؤلف التراجم والسير الذاتية فقال إن بعض المستشارين رأوا أن تخفيف مركزية السلطة ضروري، لكن الزمن وحده كفيل بإثبات "هل يستطيعون تشكيل كتلة شعبية تطالب وتقنع الأسد بالتفاوض جدياً؟".
هذه المادة مترجمة بتصرف عن صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية.