لمست في الآونة الأخيرة ظاهرة غريبة، أنجبتها على ما يبدو جائزة البوكر، وانتقلت عدواها إلى القراء، البوكر التي يراها كثيرون بأنها مناطقية، لعلها تسعى من خلال ذلك إلى فرز نمط من التنوع الجغرافي يشاطر فيه أكثر من روائي، شريطة أن يكونوا من أوطان متباينة، وهذا الأمر قد يثريها كجائزة، لكن بالتدقيق في المعايير التي تتخذها للقيام بذلك تضعها تحت موضع التهمة أيضاً!
لكن ما لمسته أن معظم القراء أصبحت خياراتهم مناطقية أيضاً، بمعنى كل دولة، كل منطقة، كل حد جغرافي ترى أن الرواية المرشحة لمواطنهم هي الأفضل من بقية الروايات، وهي وحدها الجديرة بالفوز، لم يصل الأمر إلى هنا فحسب بل لو عبّر قارئ ما عن رأيه خارج تلك المناطقية، قارئ من جغرافيا أخرى ليست من بيئة الكاتب، ولا من حيزه الجغرافي، سيكون هذا القارئ مداناً، كما لو كان رأيه المغاير لآرائهم، كما لو أن انطباعه القرائي الذي لم ينل رضاهم لا تدين الكاتب الروائي وحسب بل كأن إهانة ما مسّت وطنهم بأكمله، كما لو أن ذلك الرأي تجاوز أمراً مقدساً!
هذه الظاهرة في غاية الخطورة، وأخشى أن تتمدد مع مرور الزمن، القارئ الواعي يدرك ذلك، وعلى الكاتب المرشح أن يكون أكثر وعياً، ولا يجرّ نفسه أو من معه إليها، عليه ألا يكون طرفاً في نزاع بين هذه الأطراف لاسيما أطراف وطنه الذين يكنّون له المحبة والتقدير الكبيرين تصل لدرجة التقديس!
لا توجد أعمال أدبية كاملة، الأدب الذي يخضع لذائقة ومزاجية ومعايير تتبدل لا من قارئ إلى آخر وحسب بل من زمن إلى آخر أيضاً، كما موقف كثير من القراء تجاه روايات الروائية الجزائرية "أحلام المستغانمي" التي كانت سوبر كاتب في زمن التسعينات، حين كان حشود القراء من مختلف دول العربية يبجلّها وأعمالها.
"المستغانمي" في ذلك وقت كان هالة أدبية، تبعت أسلوباً كتابيًّا يشبهها، على مقاسها وناسبها تماماً، شدّ جيلاً كبيراً من الكتّاب والقرّاء على حد سواء، كان أسلوبها ظاهرة أدبية يهفو إليها أصحاب القلم محاكاةً وتقليداً، لكنها ركنت للأسلوب الكتابي نفسه على الرغم من تطور الرواية العربية وتكالب الأحداث وتبدّلها، لكن كتابة "أحلام المستغانمي" ظلت على حالها، تنتج بأسلوب التسعينيات في زمن الألفية، نسقها الكتابي الذي لا يسير حقاً بل وقف على النهج المكرر ذاته، التي اتخذت من اللغة المزخرفة معياراً كليًّا للكتابة في وقت لا يحتاج فيه الزمن العربي إلى نصوص متأنقة بقدر حاجتها إلى كتابة تهزّ الفكر العربي، كتابة تفتفت كل قيّم البطولة الزائفة والقوميات الوهمية، الزمن العربي بحاجة ماسة إلى كتابة تخاطب العقل وتعيد تكوينه، كتابة تقتلع من الجذور كل ما هو متخلف وتقليدي وساذج، كتابة لا تدغدغ الأرواح بلغة مزركشة، كتابة لا تعرض الوجع بعبارات موزونة بل تفتح جرح الجرح وتعرضه على ملأ ليشهد القاصي والداني حجم المأساة ومدى عمقها!
مع الزمن صار وعي القارئ العربي -أعني القارئ النوعي- يرى أموراً أخرى، يرى أن المستغانمي لم تقدم جديداً بل هي تجتر نفسها في كل عمل، يرى أبعاداً أخرى لم يكن يراها من قبلُ، حين كان ما يزال حديثاً في السن والنضج والخبرة!
ظاهرة "أحلام المستغانمي" تضببت وغلبها الترهل، وصار موقف القراء من أدبها مغايراً، الفن الذي يمضي قدماً نحو كل ما هو حداثي ومستنير، صوب كل ما يكشف عن جانب من جوانب لا الجمال فحسب، بل تفضح القبح وتدين البشاعة الإنسانية على كافة الأصعدة بلا زيف ولا خوف، بلغة قوية تلائم لغة العصر وتقلباته المستمرة، ثمة ظواهر تولد وأخرى في طريقها إلى الزوال، وما أنتجته البوكر من ظواهر هي رهين زمن معين ومرحلة معينة، والقارئ المناطقي، أعني القارئ المنحاز لمواطنه، سيدرك أن الأدب.. أن الكتابة الجيّدة، هي وحدها من تستحق الانحياز، وحده الأدب الحقيقي الذي يفقأ مكامن الروح الإنسانية وأوجاعها هو الجدير بالفوز.
ملحوظة: هذه المقالة نشرت في جريدة الرؤية العمانية بالتزامن مع نشرها في عربي بوست.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.