هل لا زلتَ تَـدْرُس بالجامعة وتقرأ الكتب؟

شريحة صغيرة جدًّا هي من ترفع سقف آمالها لاستئناف ومتابعة مشوارها الأكاديمي، وهي التي تستسيغ مصطلح "البحث العلمي" بمعناه المعمق، وتتحمل العراقيل التي تحول بينها وبين إكمالها لسَيْرِها الأكاديمي.

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/21 الساعة 03:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/21 الساعة 03:58 بتوقيت غرينتش

جرت العادة في أواسط الباحثات والباحثين أن يغادروا سلك التعليم العالي بعد تخرجهم من الجامعة (ثلاث سنوات أو أربع كأقصى تقدير)؛ ذلك أن التعليم الجامعي في نظرهم ينتهي بالحصول على شهادة "الإجازة"، ثم بعد ذلك التفكير في الإقبال على سوق الشغل، قصد العمل ضمن الوظيفة العمومية (الاشتغال كإطار تابع لوزارة التربية الوطنية بالبلد) أو التردد على المدارس الخاصة لإبرام عقد عمل محدود ومؤقت !

شريحة صغيرة جدًّا هي من ترفع سقف آمالها لاستئناف ومتابعة مشوارها الأكاديمي، وهي التي تستسيغ مصطلح "البحث العلمي" بمعناه المعمق، وتتحمل العراقيل التي تحول بينها وبين إكمالها لسَيْرِها الأكاديمي.

لا أخفيكم سرا أنني -وأنا في السنوات الأولى من الجامعة- لم أكن أتمنى إلا أن أصبح مدرساً بالسلك الإعدادي أو الثانوي بعد الحصول على الإجازة، ولم أكن آمل أيضاً في الوصول إلى "سلك الماجيستير"، فضلاً عن تسجيل أطروحة في "سلك الدكتوراه".

لكن، وبعد التفكير العميق، والاحتكاك الكبير مع أُطُرٍ عليا بالعديد من الجامعات المغربية المشهود لها بالريادة والشهرة، تجاوزت ذلك التفكير الضيق الذي يربط حياة الباحث بالشغل منذ بداياته الأولى، ويسجنه ضمن قفص مهني، ليبعده عن أسوار الجامعات والمكتبات والملتقيات والمؤتمرات..

مع هذا التحول في التفكير بدأت قصتي مع الانتقادات والآراء المتعددة، حتى من الذين لم يكونوا يـُبدون رأيهم في أتفه المواضيع، أصبحوا يدلون بدلوهم في هذا الموضوع!

بعد التحاقي بـ"سلك الماستر"، كنت أتلقى التهاني من الأقرباء والمقربين، تهاني مفعمة بالحب والفخر، لكنها ممزوجة بسؤال الحسرة؛ ذلك السؤال الذي كان يوحدهم، ويؤرقهم، ولم يكن يحرك في كياني حتى نصيباً من التفكير فيه.

"لماذا لم تلتحق بمهنة التعليم العمومي؟"

أجدني ألقى صعوبة في إجابتهم وإقناعهم بطموحي، وتزداد نسبة الصعوبة كلما تعلق الأمر بمناقشة تلك الفئة التي لا تعرف عن الجامعة إلا كونها "مصنعاً لخلق (مُدَرّس) خلال الأربع سنوات الأولى منها فقط" أما إذا تجاوز الأمر هذه الفترة، فمستقبلك على المحك!

كنت دائماً أفكر كيف أُوصّل لكل واحد منهم رسالة مفادها: (أنني أقرأ وأبحث وأتعلم.. لأنمي رصيدي وثقافتي، ولأواجه الحياة، وأرقى عبر سلم الباحثين والمثقفين وصولاً إلى سدة النخبة، لا لكي أحفظ مستقبلي من الضياع. فقناعتي ثابتة، وإيماني راسخ أنني حتى في أسوأ الحالات يمكنني أن أعيش مستقبلي كما يعيشه أفراد الطبقة المتوسطة من مجتمعي، فلماذا سأبقى رهين تفكير سلبي محبط بعد ذلك؟).

من الأسئلة المزعجة التي كانت تصلني بعد قبولي ضمن سلك الدكتوراه: "هل ستنفق ما تبقى من عمرك في سبيل البحث العلمي، والتكوينات، وتتبع الشهادات التي لا تنقضي؟ إلى متى ستبقى عزباً متنقلا بين المدن؟ ألا تفكر في تكوين أسرتك والبحث عن شغل لائق؟".

في هذه الحالة، لا أجد جواباً أبلغ من جواب الأديب "ميخائيل نعيمة" لما سأله أحد الصحافيين عن رأيه في الزواج، فأجاب: "إن الزواج ضروري لمن يحس تلك الضرورة، وليس له من مشاغل فكرية، وأهداف روحية، ما يعوضه عن التحرق وعما قد يكون في الزواج من نعمة وراحة. أما الذين لهم تفكيرهم مثل الاتجاه الذي لي ولهم أقول: إن لذة الصراع والكفاح للوصول إلى الحرية القصوى، والمعرفة الكاملة، لأعظم بكثير من لذة الزواج".

كل الأسئلة التي أتلقاها أستطيع أن أجد لها جواباً، سواء أَقـنَع سائلها أم لم يُـقنعه، إلا سؤال وحيد؛ أجدني عند سماعه أصم أبكم! الأمر يتعلق ببعض الأقرباء الذين يقطنون بعيداً عن منزلنا؛ لما يجتمعون ببيتنا في بعض المناسبات أو الأفراح.. فأتفاجأ -بعد رؤيتهم للمكتبة خاصّتي- بسؤال: "هل كل هذه الكتب قرأتها؟ ولماذا لا تنفق أموال الكتب في شراء الملابس أو وسيلة للتنقل؟".

نسيتُ أن أخبركم بأن هذا الصنف لا يزال يعتقد أن الكتب التي يجب أن تقرأها -وأنت في مرحلة الطالب- هي المقررات الدراسية المقترحة من لدن الوزارة الوصية، وهم أيضاً من الذين يصابون بالدوار عندما يشاهدون صوراً للمكتبات العالمية على شاشات التلفاز أو الكمبيوتر.

لم يقتصر الأمر على هذه الفئة فحسب، بل حتى عند زيارتي لبعض أصدقاء الطفولة الذين اختار كل واحد منهم حرفة ومهنة يمتهنها، فأقابله وبيدي كتاب أو حقيبة، فينزعج ويتذمر، قائلا: "هل ما زلت تدرس وتقرأ الكتب؟ ألم توظف بعد؟".

هذه الشريحة لا أجد نفسي منزعجاً أكثر وأنا أحدثها، لأنني، وبعد أن أشرح لهم (مشكلتهم) التي تؤرقهم، أكون بذلك زدتهم ندماً على ندم بسبب انقطاعهم المبكر عن مسيرتهم الدراسية منذ المرحلة الإعدادية أو الثانوية.

رغم ذلك كله؛ إلا أني لم أكن أخوض هذه الحرب وحيداً في الساحة، بل كان لوالدي -حفظه الله وأطال في الصالحات عمره- الفضل الكبير في تشبثي بهدفي وعدم زيغي عنه، هو سندي المادي والمعنوي من الدرجة الأولى، إذ يوافق طرحه طرحي، ويؤيد رؤيتي، ويدفعني للسير بسرعة تفوق سرعتي المحدودة.

لك مني كل البر يا سندي، ولكم مني -أعزائي القراء- كل الحب والود، ولكل متعطش لموارد البحث العلمي بشتى تخصصاته ومسالكه.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد