العمر ما هو إلا مجموع لحظاتنا ودقائقنا وفي عمر الأم صانعة الحياة وواهبتها بإذن الله، لحظات لا تنسى، لحظات بعمر بأكمله.
ولأننا وبرغم الموروث الديني والثقافي المهم لدينا عن الأم والوصية ببرها وصلتها، ما زلنا قاصرين عن الإحاطة بتلك التجربة العظيمة والمهمة، والتي على أساسها تقوم الحياة، ألا وهي تجربة الأمومة.
شخصياً قرأت الكثير والكثير عن التربية، والأدبيات الدينية، والكتب الطبية بما يتعلق بالأمومة والتربية والحمل والرضاعة ورعاية وتربية الأطفال، ولكنني لم أجد أن كل ما قرأت كان وافياً أو كافياً ليغطي ويشرح ويقول حقيقةً ما هي الأمومة، أو يصف المشاعر العظيمة التي تجتاح الفتاة والأم في لحظات مهمة من حياتها، تساوي عمراً بأكمله.
ولأنه يحزنني جداً أن أجد كثيراً من الأمهات يتعاملن مع الأمومة كقيد وعبء ثقيل، وأغلال فرضت عليهن، لا يجدن فيها سوى مسؤوليتها وألمها، ولا يعشنها ولا يستمتعن بها، فلا تسمع منهن سوى التذمر والشكوى من هَمّ رعاية الأولاد وحملهم وطعامهم واستحمامهم ونظافتهم، بل والرغبة السرية المكبوتة بألا يكن تورطن هذه الورطة: ألا وهي ورطة الزواج والإنجاب!
قد أتفهم ألا تكون المرأة على وفاق مع زوجها، وأنه وفي كثير من الحالات هو زوج لا مبالٍ، وليس لديه أدنى تقدير لمجهوداتها، كما أنه غالباً لم يقدم لها عوناً ولا مساعدة، وبالكثير هو ينفق على البيت، هذا إن لم تكن هي شريكته في الإنفاق لأنها تعمل!
لكن هذا ليس عذراً ولا سبباً لتحرم نفسها وأولادها من أن تعيش أعظم وأروع تجربة في حياتها كاملة غير منقوصة، ولا تعير كثير انتباه لمن قرر أن يكون سلبيًّا، فلتكن هي منبع الإيجابية كلها!
في الحقيقة أغلب من تتعامل بهذه العقلية مع الأمومة، هن أيضاً أمهات عاملات، هذا يعني للأسف أن أغلبهن ينظرن إلى الحمل والولادة وحتى الزواج على أنه وظيفة بيولوجية، مادية إطعامية، اجتماعية مظهرية، تفعلها لأن فلانة فعلتها، فهي تزوجت وأنجبت، وبالتالي هي ليست أقل منها! نظرة بعيدة تماماً عن أن تحمل البعد الغائي والروحي والأخلاقي والقيمي، على الرغم من رفع الشعارات!
و على الرغم من إصابة شريحة كبرى من الأمهات العاملات بداء تسطيح وتقليل قيمة الأمومة واعتبارها قيداً، فهناك الكثير من الأمهات العاملات، يدركن الفراغ الذي يسببه غيابهن وانشغالهن، ويدركن أهمية دورهن فيسعين لتعويض ساعات الغياب، بأوقات نوعية مركزة مع أولادهن وأسرهن، ليعطوهم الاهتمام الصافي والرعاية والتعليم والتربية، فيصبحن كأمهات أكثر نجاحاً من غيرهن من الأمهات العاملات، بل وحتى من الأمهات سيدات البيوت اللاتي لا يرين في الأمومة سوى وظيفتها البيولوجية، والمادية، والتسلطية.
من هنا رغبتُ بالتوقف عند لحظات هامة ومميزة في حياة كل أم، أظنها أهم من نيل الشهادات العالية، والمناصب الراقية، والأموال الكثيرة، إنها لحظات المتعة الصافية للأم، برغم كل تعب الأمومة، هي روعات لا توهب إلا لأم فتحت قلبها وعقلها لتعطي وتتلقى ما يمنحها أبناؤها من حب.
في عجالة تليق بمقال، وليس تفصيل يليق بكتاب، سأتوقف عند بعض اللحظات التي يمكن أن يُتوقّف عندها سريعاً، لنتأملها معاً:
– لحظة وداع الزوج والأطفال عند مغادرة المنزل:
الجميع مستعجلون، برغم أنك قد أعددتِ كل شيء! تعطين لهذا طعامه، وتتفقدين أخذ الصغير لملابس الرياضة، تسألين زوجك إن كان يرغب بشيء معين لتحضيره له في الصباح، وتجيبين على تساؤلات ابنتك المراهقة حول ملائمة ملابسها مع بعضها، وتضفرين شعر الصغيرة!
كل هذه الأعمال تتزاحم في الصباح الباكر، ليتحول البيت إلى خلية نحل لنحلاتك النشيطة الغادية للعلم والعمل في الصباح.
وحين تعطرين ملابس الزوج والصغار قبل الخروج، وتحتضنين وتقبلين الجميع عند الباب، وعلى ظهورهم تطبطبين، وتدعين لهم وهم يخرجون، تلقين النظرات الأخيرة على الأحبة وهم خارجون، وعيناك تغمرهم بحب وشوق حتى عودتهم بعد الظهر، تشعرين شعوراً جميلاً بارتياح من أدى أمانته على الأقل حتى ذلك الجزء من النهار.
تعرفين أنه قد خرج من البيت سعيداً مزوداً بحبك وطعامك وأنه سيكون رائق البال مرتاحاً وهو يمارس عمله ويتعامل مع خلق الله .
تعرفين أن أطفالك قد شبعوا من الحب والعناية، فمهمتك الأولى هي أن تمنحي الحب، وأهم وظيفة تؤدينها أن يشبع أبناؤك من الحب والعاطفة، قبل الخبز! فحين يشبعون من الحب منك والحماية من أبيهم وقتها لن يكون لشياطين الإنس والجن كبير أثر عليهم، بل بعون الله منهم سينفرون!
بعد تلك اللحظات العاطفية اللذيذة، تتفرغين لاحتساء قهوتك الساخنة بهدوء مع الكتاب، قبل أن تشغلك متطلبات البيت وطهو الطعام.
تلك اللحظة الجميلة لا تتمتع بها امراة عاملة، كنتها فترة من عمري، لكن كثيرًا ما تحظى بها الأم المتفرغة ، لترتشف من لحظات الأمومة خلاصتها الصافية، وإلا وهي في جريها لتلحق بالعمل مثلهم، لن يكون لديها الوقت لتعيش تلك اللحظات اللذيذة بعمق ومتعة.
– لحظة يخبرك المعلم بشيء جميل عن طفلك: كما تشعرين بالخزي في حال علق طفلك في خناقة أو تسبب بمشكلة رغم أنك تحاولين حمايته والدفاع عنه، فإنك عندما يخبرك معلم طفلك أو طفلتك بأن ولدك خلوق مهذب محترم صاحب خلق وله رؤية وهدف واضحان في الحياة، فإنك تشعرين بالفخر. فخراً أعتقد أنه في حقيقته يوازي بل ويزيد عن فخر من نال جائزة نوبل أو أوسكار، إن كنت تعتبرين أولادك وعائلتك فعلاً مشروع حياتك الأهم وربما ليس الأوحد.
إن تري أن ما زرعته في قلوب صغارك وعقولهم قد بدأ يؤتي ثماره، وإن دمك المحروق ليكونوا دوماً في المقدمة أصحاب رسالة في الحياة، لم يذهب هباءً، فتلك لعمري من عاجل بشرى الأم المؤمنة.
– لحظة تؤلف طفلتك مجلة كاملة عنك:
عندما يمتلك طفلك وسيلة ليعبر عن ذاته وما يجول بخاطره، فيفكر أن يكتب مقالاً أو مجلة مثلا، فتتفاجئين بالصغير يكتب:
أمي علمتني هذا، وقد عملت معها هذا، ويرسمك وأنت صغيرة، وأنت تلعبين معه، وأنت تقرئين معه، وأنت تنامين بجواره: لتتحول المجلة إلى مجلة أنا وأمي!
تكتشفين فجأة أنك فعلاً كل عالم هذا الطفل الصغير، كم أنت مهمة في حياته، وكم أنت مؤثرة بكل ما فيك، أنت في حياة أطفالك البطل الأول والأهم.
– لحظة يحتضنك طفلك الصغير: يبدأ طفلك عندما يكبر قليلاً، ويبدأ يستشعر أنه لم يعد صغيراً، يقاوم محاولات الاحتضان والتقبيل: يا أمي أنا لست "بي بي" صغير!
– حسنا يا حبيبي، ولكن ماما ستبقى تحبك حتى ولو أصبحت جَدًّا، لا عيب في أن تظهر مشاعرك وتتقبل مشاعر ماما!
يظهر الصغير في البداية مقاومة للمشاعر، لكنه بعد قليل يبدأ يشعر بأهمية أن يعبر عن مشاعره ويتقبل تعبير أهله عن مشاعرهم تجاهه.
الكثير من الأطفال الذكور يربون ربما بشكل غير واعٍ على تقليد آباء لا يعبرون عن مشاعرهم صراحة لشريكات حياتهم ويتأثرون بالأفكار المغلوطة بأن الرجال لا يبكون، وأن عليهم عدم إظهار مشاعرهم.
حين يبدأ طفلك يتعود على أن يظهر الحب ويتلقاه، ويشعر بالحاجة دوماً إلى حبك واحتضانك منذ أن يفتح عينيه، وقتها سيكون لديك أمل أن تنشئي طفلاً حساساً ورقيقاً، يتصل بقوة مع ذاته، يعترف بمشاعره ولا يعيش في انفصام عن ذاته الحقيقة، بل يتواصل مع ذاته وذوات الآخرين بصدق وشفافية.
– لحظة تكتشفين أن صغيرك قد ألف لك شعر غزل:
قد تنشغلين بعمل ما وتضطرين إلى الغياب لبعض الوقت، وحين تعودين تجدين طفلك قد ألف لك هذه الأبيات:
كل شيء في بيتنا وفي حياتي يلمع حين تدخلين..
أنت يا أمي تمنحين الحياة لكل شيء.
– لحظة يرسمك طفلك: عدا عن الرسمات الفضائحية التي قد يرسمك فيها طفلك متلبسة بجهاز تنشغلين فيه، فإن رسمة لذيذة لك ولأبيه يرسمها ثم يقرر تعليقها على المرآة، ذات قيمة عاطفية كبرى تفوق أغلى عقود الماس والمجوهرات.
– لحظة يبكي صغيرك لمجرد رؤيتك تبكين ويفعل المستحيل ليوقف دموعك:
حين يتم القبض عليك متلبسة بالبكاء، لأن أحدهم قسا عليك، أو بعد نشرة أخبار مروعة، أو قراءة قصة مؤثرة، أو حتى وأنت تقرأين القرآن وتدعين:
دموعك عند صغارك إعلان استنفار وخط أحمر، وسبب كبير للحيرة، لماذا تبكي ماما، وكيف يمكن أن نخفف عنها ونوقف دموعها؟
وتحت تهديد:
إذا لم تتوقفي عن البكاء يا أمي، فسوف نبكي!
تضطرين لابتلاع دموعك قبل أن تتحولوا إلى جيش من الباكين!
أن يمتلك المرء إحساساً، وتؤثر فيه الدموع في زمن قاسٍ جدًّا كزماننا انعدمت فيه الرحمة من قلوب كثير من البشر:
فإن الأمل بمستقبل أفضل للبشرية يحمله أطفال رُبوا وفي قلوبهم الرحمة والإنسانية، ولم تربهم أمهات قاسيات القلوب.
– لحظة يخترعون لك طعاماً ويصرون على أن تتذوقيه:
إنهم يحبون الاكتشاف، كما يحبون أن يفاجئوك! المشكلة عندما يكون الاكتشاف والاختراع شيئاً من مكونات عجيبة من الطعام! وتُحضر الخلطة السحرية وتتعرضين للضغوط لتذوق الاختراع!
وبعد أخذ ورد وتهديد بدلق الاختراع في فنجان قهوتك، تتذوقين!
والحمد لله تخرجين حية من الاختبار بعد أن عشتم معاً لحظات لذيذة من الإثارة والاكتشاف.
هذا غيض صغير من فيض هبات الأمومة استقيتها من تجارب عديدة لأمهات، أتمنى على الأمهات أن يشاركننا أيضاً، بتجاربهن عن #لحظات-الأمومة-المنسية..
حتى يغنين بعضهن بالتجارب والخبرات، لأهم مهمة في الحياة، وأقلها ربما تحصيلاً للاهتمام في زمان حشو التفاهة، ووسائل التواصل وانقطاع التواصل، وتسطيح مهمة الأم العظيمة في الحياة.
أيتها الأم أنت صانعة الحياة، فلا تنسي أن تعيشي لحظات الأمومة بكامل روحك وعقلك وقلبك.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.