أنا والمدخنة وسوريا

وعلى الرغم من دماثة الشعب الألمانيّ ومساعدته العظيمة لنا، إلا أنه لا يزال يغزوني الحنين لدفء الناس في بلدي، وأشتاق إلى دعوة أناسٍ أغرابٍ عني لتناول كأسٍ من الشاي، وإلى قليلٍ من الماء أشربه بنهمٍ في شوارع حلب والشام من حنفيات براداتٍ (سبيل مي) نُقشت عليها طلبات الترحّم على فلانٍ من الناس وقراءة الفاتحة على روحه، وإلى المشي مع أصدقائي في شوارع الحمدانية في حلب، وتناول البذر مع مشروب المياه الغازية أحمر اللون (خزنة)، وإلى الكثير الكثير مما لا يسعفني قلبي تحمّل استحضاره.

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/21 الساعة 03:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/21 الساعة 03:48 بتوقيت غرينتش

هي.. تنفث الدّخان جرّاء احتراق الحطب في البيوت، وأنا أنفثه من سيجارتي. هي تحرق دواخلها لتكسبهم الدفء وأنا.. أنا لا أعلم لمَ أحرق نفسي!

أنا والمدخنة جنباً إلى جنب، ننفث دخان احتراقاتنا. ورغم سقوط أشعة الشمس عليّ، إلا أنها لا تقيني برد الشتاء القارس، أم أنه برد الغربة؟! وأشعر بها -المدخنة- تشاطرني ذلك الإحساس. "الديباجة" التي يتكرر صداها على كثيرٍ ممن وصلوا ألمانيا إما لجوءاً أو بطرقٍ أخرى تزور أذنيّ باستمرار: "لكان يا عمي، صرت بألمانيا وما عاد يهمك إذا خربت البلد أو عمرت!".

وكأنّ الإنسان إذا ما خرج من بلاده تُعاد تهيئة ذاكرته، وكأننا "فلاشة" – أو حاملة ذاكرة صغيرة- نمسح منها ملفات ماضينا وننشئ أخرى مليئةً بالسرور. وكيف عساه الإنسان ينسى أفراحه وأتراحه؟! كيف عساها "الجميليّة" والـ"موكامبو" وقدود حلب تتلاشى هكذا ببساطة، وأنّى لشوارع باب توما والقصّاع أنْ تُمحى؟! في سوريا ترعرعتُ وأحببتُ وقاسيتُ وتبلورت، وهكذا أشياء لا تذوي أو تخفتُ أمام أضواء ألمانيا، على الأقل ليس في كينونتي.

أنفثُ سُحُبَ الدّخان الأبيض وذكرى حلب لا تفارقني.. ليتني لم أرها بعد الحرب، ليتني لم أشاهد أبنيتها مهدّمةً، ويا حبذا غادرتها قبل أن أشعر بالغربة فيها. وحين أنزل إلى أسواق عيد الميلاد "Weihnachts Märkte" وأُجيل عينيّ في الناس من حولي مراقباً غبطتهم، يتسلل بعضٌ من السرور إلى داخلي ويغيبُ عنّي للحظاتٍ ما يقاسيه شعبي وأهلي هناك في منفى الوطن. أنسى قليلاً مستعيناً بذلك النسيان المؤقت على إكمال حياتي هنا، ثمّ لا ألبث أن أستذكر بأنّهم يحتفلون بأعياد لم أعتدها، وأنّ أعيادنا لا مكان لها هنا. وأتذكر أعيادنا واجتماع الأهل في بيت جدتي.. وتعود إليّ روائح الأطعمة الزكية، مستشعراً على شفتيّ يديّ جدتي وأمي بعد أن ألثمهما صباح العيد، وصحون الحلويات الصغيرة المُزدانة بالنقوش الملونة والمليئة بأصناف الحلويات تُوزّع على الصغير والكبير، الأطفال بملابسهم الجديدة فرحين ومغتبطين رغم عدم امتلاكهم الكثير. أعود من سفري العقليّ إلى الماضي الذي يبدو سحيقاً على وقع التهاني المتبادلة بين الناس في الأسواق: "Frohe Weihnachten" تتردد هذه العبارة من حولي؛ نعم إنّه ميلادٌ سعيدٌ هنا في ألمانيا، لكنه حزينٌ ومشبّعٌ بالدم والعنف في بلادي.

وعلى الرغم من دماثة الشعب الألمانيّ ومساعدته العظيمة لنا، إلا أنه لا يزال يغزوني الحنين لدفء الناس في بلدي، وأشتاق إلى دعوة أناسٍ أغرابٍ عني لتناول كأسٍ من الشاي، وإلى قليلٍ من الماء أشربه بنهمٍ في شوارع حلب والشام من حنفيات براداتٍ (سبيل مي) نُقشت عليها طلبات الترحّم على فلانٍ من الناس وقراءة الفاتحة على روحه، وإلى المشي مع أصدقائي في شوارع الحمدانية في حلب، وتناول البذر مع مشروب المياه الغازية أحمر اللون (خزنة)، وإلى الكثير الكثير مما لا يسعفني قلبي تحمّل استحضاره.

وأعلم في قرارة نفسي بأنّ سوريا لم تكن جنةً من قبل، وأنّها لطالما امتلأت فساداً وظلماً وقهراً، ولكنّ الإنسان كما يبدو يصفعه الحنين حتى إلى الأيام التي كان يقاسي ويعاني فيها! ربما لأنّها غدت جزءاً منه!

أعود للجلوس قرب المدخنة معانقاً إياها ونافثاً دخان ريقي هذه المرة بعد أن انتهت السجائر. أراقب الدّخان متصاعداً إلى السماء وأحمّله رسالةً خفيّةً إلى أهلي في سوريا:

"قلبي لا يزال يرفرف هناك، على أسطح المباني المُهدّمة، ويتمنّى أن تعود الأعياد والأفراح إليكم وإلينا".

أراقب الدخان يتلاشى بعد لحظاتٍ ثمّ ألحظ المداخن الأخرى المنتشرة حولي تنفث دخانها الأبيض وأستشعر بأنّها تؤازرني في أمنياتي.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد