اليابانيون.. .كيف ولماذا؟”3″

التناغم والتجانس والتوافق والانسجام بين الأفراد، هو القاعدة الفلسفية الرئيسية التي يرتكز عليها ميزان العلاقات الإنسانية في المجتمع الياباني

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/20 الساعة 04:47 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/20 الساعة 04:47 بتوقيت غرينتش

إذا نظرنا إلى ثقافات العالم المختلفة في كيفية تصورها لمفهوم "التواضع" سوف نجد أنه ما من ثقافة أو حضارة، إلا وأعطت سمة التحلي بالتواضع مرتبة رفيعة بين سمات أخلاقها، وذلك لما تتمتع به سمة التواضع من خلق كريم وحلة جذابة تستهوي القلوب وتستثير الإعجاب والتقدير في حياة الناس المختلفة. ولكن مما لاشك فيه أيضاً هُو أننا لا نجد ثقافة أو حضارة أعطت منزلة خاصة لسمة التواضع في ثقافتها مثل ما أعطته الثقافة اليابانية لهذه السمة.
النمط السلوكي الثالث "Kenkyo" التواضع وإنكار الذات

لكن في نفس الوقت سنَجِد أن مفهوم التواضع هنا يختلف في أسلوبه عن باقي الثقافات؛ لذلك دعونا نتعرف على مفهوم التواضع في الثقافة اليابانية..
أولاً ما أود أن يعرفه القارئ، هو أن التواضع وإنكار الذات هما مرادفان لمعنى واحد في العقلية اليابانية. وبحسب مقياس التواضع الياباني، عليك أن تلتزم بمعيارين أساسيين لكي تصبح متواضعاً داخل المجتمع الياباني: الأول هو تخفيض الذات، وهو نفسه ما يعنيه النصف الأول من حروف كلمة "تواضع" باللغة اليابانية، أي أن تخفض من مكانتك وترفع الآخرين فوقك تعبيراً عن احترامك لهم. أما المقياس الثاني وهو النصف الثاني من معنى الكلمة ذاتها، وهو أن تلتزم بالتعبير عن فقر علمك بالشيء الذي تُسأل عنه حتى لو كنت تعلم عنه الكثير، فبحسب ميزان العقلية اليابانية، فصاحب العلم والمعرفة لا يبادر باستعراض قدراته بل يخفيها ولا يظهرها إلا عند الحاجة، مع التأكيد دائماً على أنه ما زال محدود العلم والمعرفة، ناهيك عن عدم الحديث عن نفسه أو قدارته وبمعنى آخر: القدرة على إنكار الذات وجعل النفس فارغة من الطمع في التعبير عن تفردها وتميزها عن الآخرين.

هذه الأنماط السلوكية الثلاثة التي ذكرتها على مدار الجزء الثاني والثالث من هذه السلسلة من المقالات، هي أنماط متداخلة متفاعلة فيما بينها يحكمها ميثاق الأعراف الاجتماعية، الذي يتركز في مبدأ مهم، وهو التزام الفرد في المجتمع بالعمل دائماً على تفادي إحداث أي شكل من أشكال الإزعاج للآخرين، سواء كان ذلك بفعل أو بكلام حتى وإن كان الطرف الآخر أقرب المقربين منه كالأخ أو الزوج والزوجة أو الوالد والوالدة، وذلك من أجل تحقيق مفهوم فلسفي مهم يعرف في اليابان بمفهوم الـ"wa" ومعناه التناغم والتجانس والتوافق والوئام والانسجام بين أفراد الجماعة الواحدة، ويمكن أن نلخصه في كلمة واحدة وهى "الوفاق الاجتماعي".

ومفهوم الـ"wa" أي التناغم والتجانس والتوافق والانسجام بين الأفراد، هو القاعدة الفلسفية الرئيسية التي يرتكز عليها ميزان العلاقات الإنسانية في المجتمع الياباني، وذلك ليس في الزمن الحالي فحسب، بل على مدى تاريخ اليابان الذي يمتد لأكثر من 1300 عام. وهو أيضاً المفهوم الذي يتصدر المادة الأولى لأقدم دساتيرها الذي وضع بالقرن السابع الميلادي على يد زعيمها المعروف
"shotokutaishi" فقد خلد التاريخ مقولته المعروفة "التوافق الاجتماعي هو أغلى القيم بين الناس".

الأنماط السلوكية والأبعاد الفكرية لسيكولوجية الشخصية اليابانية

من خلال ما قمت بعرضه من أنماط سلوكية في كيفية التواصل مع الآخرين قد يذهب القارئ إلى بناء صورة معقدة للعقلية اليابانية وطرق تواصل الفرد الياباني، وأساليب بناء علاقاته الإنسانية مع الآخرين، ولكن في الواقع ما أردت إيصاله من خلال شرحي وتحليلي هذا، هو تسليط الضوء على جانب بناء في كيفية التعامل مع الآخرين من خلال جعل الآخر نصب عينك دائماً، وذلك لأنك إذا أدركت ذلك، فبالتالي سيصبح هذا الآخر الذي تهتم به وتعمل على التوافق معه، هو أنت نفسك، وذلك بالنسبة لمن يحيطون بك أو يتعاملون معك في مشاهد الحياة اليومية المختلفة، وبالتالي يتحقق التوافق والانسجام المتبادل بين أفراد المجتمع دون النظر للقناعات الشخصية والفكرية التي قد يكونون مختلفين فيها فيما بينهم.

وهنا ينبغي علينا أن نلاحظ شيئاً مهمًّا من خلال رؤيتنا لهذه المجموعة من الأنماط السلوكية المتفردة في طبعها بين ثقافات العالم المختلفة، وهو أن الكثير من تلك الثقافات وفلسفاتها التي نعرفها ونعتبرها متميزة في أبعادها الحضارية والثقافية نجدها تركز في اهتمامها على معيار احترام حرية الفرد وبناء الشخصية المستقلة وكيفية تنمية مهاراتها وقدراتها في التعبير عن ذاتها. أما هنا في اليابان، فنجد الأنظمة التعليمية تعتني في المرتبة الأولى ببناء شخصية قادرة على الاستماع جيداً للآخرين وتأسيس إنسان يراعي في كافة تصرفاته حياة الآخرين، حتى وإن كان ذلك على حساب حريته وقناعته الشخصية. ولا شك أن هذا الالتزام بالشريعة الثقافية لقواعد التواصل والتعايش مع الآخرين، كان سبباً في رفع درجة صعوبة بناء العلاقات والتواصل بين أفراد المجتمع. لكنه في نفس الوقت كان العامل الأكثر تأثيراً في الحفاظ على قانون السلم والتوافق الاجتماعي بين فئات المجتمع، مما جعل اليابان تُعرف بأنها النموذج الأمثل في احترام الآخر والأمن والأمان الاجتماعي بين دول العالم.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد