الفراشة واليراعة: التسوّل والمسؤوليّة في فلسفة “محمّد إقبال”

إدراك الإنسان مسؤوليّته تجاه نفسه يقوده بشكل أو بآخر إلى إدراك مسؤوليته تجاه العالم. بروابط الحب والوجود اللامرئية يتكشّف له ما بداخله من واجب تجاه الناس، المجتمع، والكون.

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/15 الساعة 03:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/15 الساعة 03:43 بتوقيت غرينتش

"تقول الفراشة: لماذا تفتخر اليراعة! إنها لم تجرّب الاحتراق بالنار! تجيبها اليراعة: مئة شكر لله، لأنني لست فراشة، وأني لست بحاجة إلى حرارة النار."

هذه الأبيات لمحمد إقبال من ديوان "جناح جبريل"، وهي مفتتح بديع للحديث عن ثاني مقالات التأثيرات الموهنة للذات؛ تأثير التسول وتبديده بالوعي بالمسؤولية الفردية والكونية، والتي أجاد إقبال في الحديث عنها في شعره.

يظهر بوضوح أن فلسفة إقبال بمجملها تتحدث عن ثبات الذات كويسلة لغاية أسمى. حيث إن هذه الغاية هي الوصول إلى الله سبحانه، عن طريق ذات الإنسان. على اعتبار أن الإنسان منه المنطلق وفيه السعي وأنه الهدف والطريق الأمثل لتلك الغاية، ومن ثمّ تلقائيًّا إلى إعمار الإنسان والأرض، حيث لا يمكن للذات أن تكون طريقاً إلى الله إلا عن طريق الحركة. وعلى هذا تم إعطاء لقب فيلسوف الذاتية لمحمد إقبال.

ومما يُشار أنّ فلسفة إقبال هي محاولة جمعٍ واتّزانٍ بين ثنائية: الحركة والإيمان، أي بين عشق الإله والعمل للإنسان. وهي ما يحب إقبال أن يختصرها بـ"الوَجدُ الأقصى والمجاهدةُ القصوى"، أو بمعنى آخر: "كُنْ مجنوناً مع الله.. يقظاً مع محمد".

ويُشير إقبال في شِعره إلى القوى التي تَزيد من ثبات الذّات، حيث إن ثبات الذات هو مطلب حتى يتسنى للإنسان أن يكون، وأن يثبت وجوده، وأن يكون آيةً دالّة على خالقه. وهذه القوى مثل: الحبّ والتّسامح والشّجاعة والفقر -وهو المصطلح الأشهر عند إقبال- والفعل الأصيل الخلّاق، وفي مقابل هذه القوى يسرد التأثيرات المُوهنة التي تضعف قوّة الفعل وتهشّم ذات الإنسان وهي: الخَوف والتسوّل والعبوديّة والتقليد.

يرى إقبال أن المسؤولية قيمة إنسانية أصيلة ووصف ملازم للإنسان، وأن التسول مرض عارض من الممكن التخلص منه "إن العَوَز هو أصل العلل، وأصل الألم كله هذا المرض".

وأن المتسوّل يسكن دائماً دور الضحيّة، الدور الذي يتقنه ببراعة، ومن الممكن أن يتماهى معه، فيوقن أنه طاهر، وأن كل ما هو خارجه سبب لبؤسه! ومع هذا فإنه لا يكفّ عن البحث عن حلول خارج ذاته! ويغنّي مواويل التبرّم والتذمّر، سكران لا يستيقظ بصفعات القدر التي تحاول تنبيهه. يصفه إقبال في ديوان أسرار الذات: "دموع البكاء مثل الأطفال في كأسه، وآهات معاناته وتأوّهاته متاع بيته، لقد سكر من سؤال، واستجدائه على أبواب الحانات، من ركلات الحارس صار هزيلاً، تنطلق من لسانه مآت الشكاوى من القدر، لا يوجد سوى العجز رفيق له على الدوام". ومع أن هذه الأبيات تبدو قليلة، إلا أن بها مفهومين مهمين يربطان التسوّل بجميع الأفعال الموهنة للذات بشكل أو بآخر.

المفهوم الأول هو أن الواعي بالمسؤولية والمتخلّص من التسوّل يتجه بشكل تلقائيّ إلى الفعل وترك العجز. يتوقف في لحظة ما عن الشكوى وعن تقمّص دور الضحيّة أو حتى عن الذوبان فيه، ليعود مرّة أخرى إلى ذاته، إلى الداخل، حيث الكنز المخبوء، حيث نقطة الانطلاق وحقل الإصلاح الحقيقيّ، هناك حيث تكون نفسه دائماً موضع السؤال. فلا يبحث مرّة أخرى عما يلقي عليه اللوم خارج ذاته، والذي هو في أغلب الأحيان القدر! نعم، لن يكون القدر للواعي بمسؤوليّته حجّة أمام نفسه بعد الآن، ولن يستخرج من الدين أو القرارات السياسية ما يزيّن كسله به. وهذا هو المفهوم الآخر الذي يتصل دون جهد بالمفهوم الأول، حيث إن الواعي بالمسؤولية سيتعرّف على أنّه شخص حرّ مخير، مسؤول عن تصرّفاته {وقفوهم إنهم مسؤولون}. سيعمل بإرادته واختياره على ما هو مسؤول عنه قدر الإمكان، وسيدرك الحدّ الفاصل بين ما بيده تغييره وبين ما يقضيه الله، وبالتالي سيكون أكثر تأدّباً ورضا بما يأتي من عالم الغيب، وأقل تسخّطاً وتذمّرا، حيث إنه يعلم تماماً أنه مخيّر وميسّر أيضاً لما خلق له.

يضرب إقبال مثال المسؤولية بعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "افعل ما فعله عمر، وانزل مثله عن ناقتك" وهو يشير إلى القصة المشهورة التي تذكر أن عصا عمر وقعت منه وهو على ظهر الناقة فنزل منها وأخذها بنفسه ولم يطلب من أحد أن يخدمه. وبالطبع فإن إقبال لم يأخذ فعل عمر -رضي الله عنه- عشوائيًّا بل هو يعلم تماماً أن عمر -رضي الله عنه- نفسه هو الذي وضع السارق أمام مسؤوليّته حينما تحجّج السارق بالقدر "سرقت بقدر الله"، فوازى عمر بين فعله هو وبين قدر الله حينما قال: "وأنا أقطع يدك بقدر الله".

إقبال لم يقصد بالتسول تسوّل المال فقط، بل إن تسول المادّة هو أخفّ ما يتوسّله المرء: "السائل يكون أكثر حاجةً وعوزاً من الشحاذ" فالسائل قد يشحذ المكانة، العاطفة، لفت الانتباه، أو حتى الشفقة أو غير ذلك، فتضعف الذات وتتكسّر على أعتاب الأبواب الموصدة، بدل أن يقصد الباب المفتوح: "إلى متى تتسول المناصب؟ إن سمو الفطرة يكمن دوماً في الاتجاه إلى السماء، وسقوطها يكون من سؤالها إحسان الآخرين، إنما تتفرق الذات وتتبعثر من السؤال".

ومع أن الإنسان "إذا جمع بالشحاذة والسؤال بحر القلزم، فسيكون له مثل سيل من نار، لكنه لو جمع قطرات قليلة بقوة ساعده، فهي قطرات مباركة أجمل من قطر الندى".

إن المسؤول غنيّ بذاته، والمتسول فقير ولو ملك الدنيا. يحكي إقبال قصّة الفراشة الفارغة من النور، والتي يجذبها أي بريق خارجيّ فيكون مصيرها الفناء "لست مثل فراشة الأرقية التي تحرق أجنحتها، فعندما يصبح الليل أكثر قتامة من عيون الغزال، أحتضن نفسي، فأنا نور طريقي الذي أسلكه" فهو يراعة تمتلك هالة ضوء دافئة في داخلها نتيجة احتراقها الداخليّ. ومع أنه يبدو فقيراً معدماً لا يمتلك القناطير من الذهب والفضة، إلا أنه قادر على أن يهب شرارة العشق إلى الفارغين الباردين "ما أسعد إقبال المعدم، إلا أنّه نارٌ كلّه، شعلةٌ كلّه، لا يمنح إلا الشرارات".
حيث التنوير يكون على قدر الإهلاك (الداخليّ) وليس الاستهلاك (الخارجيّ)، إنه بأن تمتثل وصية إقبال في نهاية إحدى قصائده: "كن بحراً زاخراً، في كأس فارغة".

نعم، إن إدراك الإنسان مسؤوليّته تجاه نفسه يقوده بشكل أو بآخر إلى إدراك مسؤوليته تجاه العالم. بروابط الحب والوجود اللامرئية يتكشّف له ما بداخله من واجب تجاه الناس، المجتمع، والكون. رؤيته للبؤس في هذا العالم يجعله يشعر بالحرج، يشعر بالحرج أمام واجبه الفطري تجاه الإنسان، ويفرح حين يرى موقفاً يساعد فيه الأخ أخاه، ويسعى لأن يتمثّل دور الإنسان الفعّال واللبنة من البناء والشعلة في اليوم العاصف:

"في تراب يومنا تكمن شعلة الغد لعالم حرقتنا، وفي براعمنا هذه تكمن روضة مزهرة، أقبل أيها الفارس على ظهر الجواد المسرع! أقبل يا نور عين الممكنات! أسمع لحنك إلى كل الآذان! انهض وعلّم قانون الأخوّة والمساواة! وأدر كأس صهباء المحبّة! أعد إلى العالم المحبوب أيام السلام! بلّغ المتحاربين رسالة الأمن والوئام!"

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد