الجميع يتمنى سوريا موحّدة وفي سلام ولا يحكمها الأسد، ولكن بعد خمسة أعوام من الحرب في سوريا، سيكون من المبكر للغاية تقديم أية استنتاجات قاطعة عما سيسفر عنه وقف إطلاق النار الهش القائم حالياً بالبلاد، والذي لم يستمر سوى أسبوعين فقط. على العكس، نحتاج حالياً إلى تخيل الطرق التي يمكن أن ينهار بها هذا الاتفاق بهدف الحيلولة دون وقوعه باعتبار أن هذه الهدنة أفضل شيء حدث للبلاد منذ اندلاع الأزمة.
على سبيل المثال، قد تستغل المجموعات المعارضة للنظام السوري توقف الغارات الجوية لإعادة تنظيم صفوفها لشن هجمات جديدة أملاً في الوصول إلى التحول السياسي الذي ترغب فيه من البداية وهو الإطاحة بنظام الأسد، في حين قد يفشل نظام الأسد وحلفاؤه الروس في الوفاء بوعودهم باقتصار هجماتهم على الجماعات الإرهابية فقط، فقد يقومون بتجديد الغارات الجوية العنيفة ضد المعارضة بهدف "إنهاء المهمة"، وفق تقرير نشرته صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، اليوم الاثنين 14 مارس/آذار 2016.
على الجانب الآخر، قد تطلق بعض التنظيمات مثل تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) وجبهة النصرة حملة جديدة من الهجمات على الأسد وحلفائه، وهو ما قد يشعل شرارة عملياتهم العسكرية مرة أخرى ضد المعارضة بأكملها، وليس ضد تلك المجموعات فقط.
في ظل كل هذه الحسابات المعقدة، تعد الهدنة الحالية وان كانت مؤقتة بمثابة إنجاز كبير، وقد تكون أفضل التطورات في تاريخ الحرب السورية. نتائج الهدنة حتى الآن كانت انخفاضاً هائلاً في حجم أعمال العنف في البلاد والسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى الآلاف ممن كانوا على وشك الموت جوعاً.
عودة التظاهرات
مع توقف الغارات الجوية، أتيحت الفرصة للمحتجين للخروج في تظاهرات سلمية من جديد في دمشق وحلب ودرعا وحمص، بل وتواصلت بعض الخدمات التي كانت قد توقفت تماماً في المدن السورية مثل سيارات الأجرة، وهو ما أعطى الكثير من السوريين الأمل والحلم بانتهاء الكابوس الذي عاشوا فيه طويلاً.
يعتبر هذا الأمر بالأساس هو الأولوية الكبرى حالياً في سوريا، وهو أكثر أهمية حتى من الأهداف البعيدة مثل الإطاحة بنظام الأسد أو تهميش روسيا وإيران، وهو ما يجب أن يفكر فيه الدبلوماسيون المجتمعون في جنيف هذا الأسبوع، وأن يجعلوا تعزيز وقف إطلاق النار هدفاً رئيسياً لهم.
خيارات المعارضة
لسوء الحظ، فإن المجموعات الرئيسية للمعارضة السورية –اللجنة العليا للمفاوضات- وبعض داعميها من الخارج، بما فيهم السعودية وتركيا، يصرون حالياً على أكثر من ذلك، ويعتبرون أن رحيل الأسد في أقرب وقت هو الشرط الأساسي لعملية السلام في سوريا، كما سيستمرون في المطالبة بالإطاحة به حتى ولو لم تصل المفاوضات إلى تلك النتيجة.
في واقع الأمر، وعلى الرغم من كون مفاوضات التسوية تهدف بالأساس إلى الوصول فيما بعد إلى تغيير في القيادة السورية، يبدو أن الأمر بعيد المنال في الوقت الحالي، بل إن الإصرار عليه ستكون نهايته فشل المفاوضات والعودة للعنف مرة أخرى، فوقف إطلاق النار الحالي على سبيل المثال لم يكن من الممكن الوصول إليه دون أن تتنازل المعارضة عن إصرارها على ضمانات سياسية انتقالية كشرط أساسي للتفاوض.
استمرار الأسد أو الحرب
تكمن الخطورة في مفاوضات جنيف القادمة في كونها قد تؤدي إلى جعل استمرار بشار الأسد –الذي تهدف الثورة السورية لإسقاطه من البداية- شرطاً أساسياً لاستمرار وقف إطلاق النار، وتجعل من الإصرار على الإطاحة به خطة غير واقعية تؤدي لوقف الهدنة دون خطة واقعية لما بعد ذلك.
ربما يكون النهج الأفضل لمفاوضات جنيف هو محاولة الوصول لخطة طويلة المدى ذات أهداف واقعية، فيجب أن تبدأ بتعهد كامل من جميع الأطراف بالالتزام بوقف إطلاق النار والتفاوض حول الشروط المحددة لإيصال المساعدات الإنسانية وإطلاق الأسرى.
حكم محلي
من هذه النقطة، يمكن الاتفاق على وجود حكم محلي، تتولى فيها الأطراف التي تسيطر على مناطق بعينها حالياً (مثل الأكراد في الشمال ومجموعات المعارضة المعتدلة في أكثر من منطقة وقوات النظام نفسها أيضاً) توفير الأمن والخدمات داخل مناطقهم، والترتيب في نهاية المطاف للتعاون والربط مع أجزاء أخرى من سوريا اللامركزية.
يجب أن تتضمن المفاوضات أيضاً تفاصيل التعامل مع المجموعات التي تصنفها الأمم المتحدة كمنظمات إرهابية مثل تنظيم داعش وجبهة النصرة، وأن يتم التعامل معها بشكل جماعي، ليس من قبل روسيا والنظام السوري فقط، بل بمعاونة مجموعات المعارضة الأخرى وكذلك الولايات المتحدة وحلفائها.
في نهاية المطاف، يجب أن تقود تلك المفاوضات إلى تحديد خطة سياسية طويلة المدى تعالج المستقبل السياسي والمؤسسي للبلاد، بما في ذلك الإصلاحات الدستورية والانتخابات، والتعامل بواقعية عند الحديث عن الأهداف القريبة.
بالتأكيد يتمنى الجميع رؤية سوريا موحدة وفي سلام ولا يحكمها الأسد، إلا أننا يجب ألا نغفل أن الحرب في هذا الاتجاه أدت حتى الآن إلى مقتل آلاف السوريين وزعزعة استقرار المنطقة بأكملها وظهور الكثير من المتطرفين في المنطقة والعالم بأكمله، بالإضافة إلى تدفق ملايين اللاجئين إلى أوروبا وهو ما هدد استقرار الاتحاد الأوروبي بشكل واضح.
في ضوء هذه المعطيات، سيكون استمرار وقف إطلاق النار في سوريا –بغض النظر عن مصير العملية السياسية حالياً- بمثابة تحسن كبير قياساً بالوضع الراهن، وهو أفضل بكثير للشعب السوري والعالم من استمرار الحرب الحالية.
– هذا الموضوع مترجم بتصرف عن صحيفة Financial Times البريطانية، للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.