الجانب المظلم من الألم

لا تنكر ألمك ولا تُبتلع فيه، لا تترك ألمك يعبث بخواطرك وعض على شفتيك واسمح له أن ينساب إلى قلبك فتنجلي عين بصيرتك، ولا تخف فقلبك أعظم من ألمك!

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/14 الساعة 04:03 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/14 الساعة 04:03 بتوقيت غرينتش

لقد حاولت في المقالة الأولى أن أقدم رؤيتي النفسية لمعنى الألم وغاية المعاناة، لكنني ما قصدت -وليس بمقدوري- اعتباره الصديق الذي سعدت بصحبته إذ لم يكن كذلك، بل هو المُعلم الذي أوجعتني قسوته.

وكما تكلمت عن البعد المشرق من تجربة الألم، فلست أنسى الجانب المظلم منه، فأين إذاً إسقاطات الوعي، والإدمان والإلحاد والانتقام والتي تنتج في جانب كبير منها عن مخاض الألم؟! إن الآلام النفسية لا تقل شدة عن الآلام الجسدية، بل ترى أن الجسد قد يحوّل الآلام النفسيّة إلى أعراض جسدية لتخفيف وطأتها وجلب القليل من تعاضد الجمادات البشرية التي لا تلقي للألم النفسي بالاً فيما يُعرف بالاضطرابات التحولية [الهيستيريا].

وأعني بإسقاطات الوعي، تلك التجارب الصادمة التي تبلغ شدة سطوتها درجة تضطر اللاوعي بالتدخل لفصل تيار الذاكرة إن صح التعبير، فلا تذكر إحداهن عن حادثة اغتصاب سوى أنها كانت برفقة بعضهم، ثم وجدت نفسها ملقاة على الطريق فاقدة الوعي وملطخة بدمائها، وما حدث بينهما هي لا تذكر -صادقة- عنه شيئاً. لقد كانت شدة الألم يصعب احتمالها فتدخلت غريزة البقاء ونقلتها إلى عالم آخر إلى أن تنتهي المأساة، وغالباً ما يعود لها شريط الحادثة بعد اجتياز مرحلة من التعافي فيما يعرف باستعادة ذاكرة الجسد!

الألم والانتقام

جانب آخر من سطوة الألم يظهر في جذوة الغضب التي تتقد في قلب المتألم، والتي قد تدفعه إلى سلوكيات تدمير النفس أو الآخرين، وهذا هو مبحث علم كامل يُعرف بعلم نفس الجريمة، ويمكن تفسير الميل إلى انتهاج العنف للتنفيس عن الغضب، بأنه: سلوك تعليمي يكتسبه الفرد من بيئة التربية وتعززه التجربة، غير مبالٍ بأن انتهاج العنف يُدخله إلى دائرة الإساءة التي تأذى بها. وبعيد عن سلوك العنف الفعلي فإن الغالب على الذين تعرضوا للإساءات الفعلية رغبتهم الدفينة في إلحاق الأذى بالمعتدي، وكلما استعاد الذهن خبرة الألم تصاعدت بداخله رغبة الانتقام.

[إن أهم الأشياء التي يجب فهمها عن المجرمين، هو أنهم ممتلئون بالرغبة في التغلب على الصعوبات.. إن هذه النزعة أو الرغبة قد تمت الإشارة إليها على أنها سعيٌ نحو تحقيق الأمان، والبعض سماه سعياً نحو الحفاظ على الذات]. [١]

الألم والإدمان

يرى خانزيان [٢] أن الإدمان هو نوع من مداواة النفس المتألمة، ويرى أن المدمن هو شخص لاقى من المعاناة ما عجز عن تحمّله فلجأ إلى مادة لتغييب الوعي وتخفيف وطأة المعاناة، وهذه هي النظرية الإنسانية للإدمان. ولا يشترط أن يكون الإدمان على مادة مخدرة، بل هناك إدمان الشهوة وإدمان العلاقات وإدمان الدين، إدمانات موصومة وأخرى أكثر لياقة!

الغالب على المجتمع هو النظر للمدمن كمخرج نهائي، وليس إلى المادة الخام التي شكلتها المعاناة وقسوة التجربة حتى خرجت في شكل إدماني، والشعور السائد هو مزيج من الألم والخوف أو كما تقول إحداهن: "خايفة من كل شيء، وخايفة من بكرة، وحتى خايفة مخافش"!

الألم والإلحاد

ليس كل الإلحاد واحداً، فهناك الإلحاد المعرفي، والذي غالباً ما يأخذ الشكل الشكوكي البحت، كما أن هناك الإلحاد النفسي وهو شكل من أشكال تنفيس شحنة من الغضب تجاه الذات الإلهية! كثير من الملحدين هم أشخاص متألمون في عمق نفوسهم، الكثيرون منهم مروا بتجارب صادمة اهترأ معها نسيج بنيانهم الروحي، واختلت بها نظرتهم إلى عدالة السماء، فهم في الحقيقة ليسوا منكرين للذات الإلهية وإنما ناقمين عليها!

من السهل جدًّا أن نوقفه في ساحة المحاكمة المعنوية أو الفعلية لنُكيل إليه أحكام الكفر والزندقة دون أدنى نظر إلى احتماله وقوعه تحت ضغط معاناة فندفعه معها بعيداً عن الله. حين يسقط الفرد تحت سطوة الظلم والقهر والتستبداد وتخذله معرفته ورؤيته ليد الله الراعية تتصاعد بداخله الأسئلة الوجودية التي تنهشه صباحَ مساءَ، عن القدر والغاية والمصير. وما لم يجد من يحتوي ألمه ويوجه منظاره إلى عناية الله في أحلك الساعات فإنه قد يفقد بوصلة السماء التي في قلبه!

ما بعد الألم

في الصور الثلاث السابقة.. يمكننا أن نرى الألم يقف دافعاً لسلوكيات مرفوضة، وفي الصور الثلاث، نحن ننكر الألم على أنفسنا، ننكره ونحن في قبضته فيتحول إلى صورة منهم، وننكره على المتألم حين نحسن سلخ الفاعل، دونما الالتفات إلى مجرد احتمال أن يكون الجاني ضحية في فصلٍ آخر من الرواية! إن أقصى ما يحتاجه المتألم هو أن نستمع أنّاته بلا ضجر ولا أحكام.

لا تنكر ألمك ولا تُبتلع فيه، لا تترك ألمك يعبث بخواطرك وعض على شفتيك واسمح له أن ينساب إلى قلبك فتنجلي عين بصيرتك، ولا تخف فقلبك أعظم من ألمك!

________
١- ادلر، الفريد؛ معنى الحياة. ترجمة عادل بشري، ص٢٥٠.
٢- خانزيان إدوارد، أستاذ الطب النفسي بجامعة هارڤارد، ومؤسس نظرية مداواة النفس لتفسير الإدمان. في كتابه معالجة الإدمان كعملية إنسانية treating addiction as a human process.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد