في أول زيارة له إلى إيران منذ توليه رئاسة الحكومة التركية، وبكل الهدوء والرصانة المعهودين عنه، تحدث رئيس الوزراء التركي داوود أوغلو بإسهاب عن علاقات بلاده بإيران، وذلك خلال مؤتمر صحفي أعقب اللقاء الذي جمعه بالنائب الأول للرئيس الإيراني "إسحاق جيهان غيري" حيث قال أوغلو، إن علاقاتنا بإيران جيدة رغم الخلافات بشأن بعض القضايا، مؤكداً على أن تطوير هذه العلاقات من شأنه أن يسهم في حل أزمات منطقة الشرق الأوسط، ومؤكداً على الدور الإقليمي لكل من تركيا وإيران في إيجاد أرضية مشتركة للحد من عدم الاستقرار والتهديدات الإرهابية واقتتال الإخوة في المنطقة.
زيارة أوغلو لإيران كانت خطوة فاجأت الكثيرين، البعض اعتبرها خيانة تركية للسوريين ومتاجرة بقضيتهم، وتحقيق مكاسب اقتصادية من خلال المساومة على الورقة السورية، وهذه نظرة فيها الكثير من الظلم والتجني على تركيا التي يطالبونها بأن تكون سورية أكثر من السوريين، وعربية أكثر من العرب.
لا يختلف اثنان على أن تركيا قد دفعت ثمناً غالياً لوقفوها إلى جانب الشعب السوري، وهذا الثمن ليس ماديًّا اقتصاديًّا وحسب، بل سياسي وأمني أيضاً، فتركيا اليوم محاصرة دولياً ومهددة روسياً، في حين أن المشروع الانفصالي الكردي حاضر وبقوة، وباتت وحدات الحماية تسيطر على معظم الشريط الحدودي السوري مع تركيا، إنه الكابوس الذي لطالما أرق الساسة الترك.
تركيا اليوم لا تملك الكثير من الخيارات، فهي وبعد ترددها على مدى السنين الخمس الماضية ونتيجة لاتباعها سياسة النأي بالنفس، حيدت نفسها كثيراً فلم تكن لاعباً كبياً مؤثراً في الشأن السوري، وبالتالي فإما أن تنحني للعاصفة وتقدم بعض التنازلات التي قد تمكنها من تجاوز الأزمة كخيار أخير لا مفر منه، وإما الانزلاق إلى المجهول، خاصة بعد أن بدأ حزب "البي كي كي" بتنفيذ عملياته الإرهابية في العمق التركي وربما بإيعاز من نظام الأسد وجهات إقليمية ودولية أخرى.
يكتسب التقارب (التركي – الإيراني) اليوم أهمية خاصة كونه يأتي في مرحلة شهدت فتوراً في العلاقة بين البلدين خلال العام المنصرم، إضافة إلى تدني التبادل التجاري من 22 مليار دولار إلى ما دون 15 مليار دولار، وذلك على خلفية الصراع الدائر في سورية، فإيران الداعم الأول لنظام الأسد والممسك بزمام الأمور في سوريا منذ العام 2012 والتي تعيق أي تسوية أو حل يقضي بتنحي الأسد، في حين أن تركيا أحد أهم داعمي الثورة السورية، وتتحمل تبعات لجوء حوالي مليوني سوري على أراضيها تكفلت لوحدها بتأمين احتياجاتهم.
تركيا العضو في حلف الناتو، والشريك الإستراتيجي الجديد المحتمل للمملكة العربية السعودية، تدرك تماماً أنها مستهدفة في وجودها، رغم سياسة ضبط النفس التي مارستها طوال السنين الخمس الماضية، ورغم عدم انجرارها إلى المستنقع السوري، الذي لا يحتاج الغوص فيه سوى إلى زلة قدم، وهي في سبيل ذلك تحاول جاهدة عدم الانجرار بعيداً خلف سياسة المحاور، وتعمل على عدم قطع شعرة معاوية مع كافة الأطراف بما فيهم روسيا وإيران.
من المفارقات المثيرة أن يكون عدوك السياسي هو نفسه شريكك الاقتصادي، هذه هي بالضبط المعادلة التي حكمت علاقات تركيا مع كل من روسيا وإيران، ففي الوقت الذي كانت فيه العلاقات الاقتصادية الروسية – التركية في أوجها مع تبادل تجاري بحدود "44 مليار دولار" ومرشحة للوصول إلى "100 مليار دولار" بحلول العام 2022 تلقت فيه هذه العلاقات ضربة موجعة على خلفية التدخل الروسي في سوريا دعما لنظام الأسد.
أما على الجانب التركي – الإيراني فقد كانت قيمة التبادل التجاري قبل العام 2015 بحدود "22 مليار دولار" انخفضت إلى ما دون "15 مليار دولار" نتيجة تصاعد الخلافات بين البلدين حول الصراع في سوريا ودعم تركيا للسعودية في عاصفة الحزم ومشاركتها كذلك في التحالف الإسلامي الذي أعلنت السعودية عن تشكيلة قبل عدة أشهر، فكيف يمكن للمتناقضات ان تلتقي؟
الأيديولوجيا تفرق ولكن المال يجمع!
لا شك أن تبعات الصراع في المنطقة قد أثقلت كاهل معظم دولها، ولئن كانت تركيا قد تحملت عبء اللاجئين السوريين وخسرت روسيا كشريك اقتصادي وتجاري مهم، فإن إيران اليوم تئن تحت وطأة التكلفة المالية والاقتصادية الباهظة التي خلفها تدخلها في سورية والعراق واليمن إضافة إلى محاولات نشر التشيع وتصدير ثورتها المزعومة، وهو ما أثقل كاهل خزينتها، ودفع اقتصادها إلى مستويات عالية من التضخم، حتى باتت بحاجة إلى قارب نجاة، وليس مجرد طوق قدمه لها رفع العقوبات الذي لن يسهم في حل مشاكلها الاقتصادية المتراكمة.
إيران التي حاولت استغلال الخلاف الروسي – التركي للتقارب مع روسيا، تدرك جيداً أنها لا تستطيع الاستغناء عن تركيا كشريك تجاري مهم، فهي بوابة عبور النفط والغاز الإيرانيين إلى أوروبا، وهي تعلم مدى حاجتها لتركيا كمتنفس إقليمي ساعدها كثيرا إبان العقوبات المفروضة عليها، فقد كانت تركيا والإمارات رئتيها اللتين تنفست من خلالهما اقتصاديًّا، وبالتالي فإن إيران ورغم الخلافات المتفجرة مع تركيا حرصت على بقاء العلاقات وإن في حدودها الدنيا، لكنها وفي نفس الوقت لم تقدم أي مبادرات حسن نوايا تسهم في تحسين هذه العلاقات.
المتابع للشأن التركي سيدرك أن المبادرة التركية تجاه إيران، والتي تمثلت بزيارة رئيس الوزراء داوود أوغلو لإيران كانت طبيعية، فالرجل سياسي قبل أن يكون اقتصاديًّا، حيث شغل منصب وزير الخارجية التركية لعدة سنوات، وهو مهندس علاقاتها الخارجية المتمثلة بمعادلة "صفر مشاكل" مع المحيط الإقليمي، وهو بهذا لم يحِدْ عمّا رسمه من سياسات خارجية لبلاده، بل ويحاول إحداث اختراق ما يستطيع من خلاله أن يؤثر على مجمل الأحداث في المنطقة، خاصة إذا ما وجد تجاوباً إيرانيًّا مع مسعاه، فعودة العلاقات التركية – الإيرانية إلى مستوياتها السابقة بل ورفع مستوى التبادل التجاري من 15 مليار دولار إلى 50 مليار دولار خلال السنين الأربع القادمة، كفيل بإحداث اختراق نوعي يعوض تركيا بعضاً مما خسرته في روسيا من عقود تجارية وخاصة في مجالي الطاقة والسياحة.
تصريح مهم هو الذي صدر عن الرئيس الإيراني قبل أيام، ومؤداه أن إيران ليست راضية عن كل السياسات الروسية في سورية، وهذا مؤشر إلى مدى التهميش الذي تتعرض له إيران على يد الروس في سورية، خاصة بعد التفاهمات الأمريكية – الروسية الأخيرة وهو ما يفسر الضوء الإيراني الأخضر لطائرة أوغلو كي تحط رحالها في مطار طهران التي أعلن منها روحاني أنه مع أي حل يوقف القتال في سورية ويحفظ وحدة أراضيها، لكن ما يُخشى منه أن يكون هدف إيران من التقارب مع تركيا مجرد الضغط على روسيا والولايات المتحدة ليس إلا.
صحيح أن الهدف المعلن من زيارة أوغلو لإيران كان اقتصاديًّا لكنه صرح كذلك، أن أولى الملفات التي ستبحث خلال الزيارة هما ملفا العراق وسوريا، لكن من المرجح أن يكون قد تم بحث العلاقات الإيرانية السعودية، وربما يكون هناك وساطة تركية بين السعودية وإيران، فالاقتصاد والمال يحتاجان إلى أمن واستقرار وعلاقات سياسية بين الدول لا يضمنها إلا أنظمة قادرة على تطبيق ما يتم التوصل إليه من اتفاقات وتفاهمات.
تركيا تحاول إقناع إيران بأهمية وقوة كلا البلدين إقليميا، وضرورة التحرر من التبعية المطلقة للقوى الكبرى، لكن من السابق لأوانه التكهن بمدى نجاح الزيارة في إرساء قواعد وأرضيات مشتركة لتفاهمات يمكن لها أن تسهم في إيجاد حلول محلية وإقليمية لجملة الأزمات التي تسبب بها المحيط الإقليمي وعلى رأسه إيران، لكل من العراق وسورية واليمن، ومدى قناعة إيران بأن تصدير ثورتها ونشر مذهبها عنوة، لم ولن يجر عليها وعلى المنطقة سوى الخراب والدمار، لكن يبقى الهاجس من الخطر الانفصالي الكردي المشترك لكلا البلدين هو الكفيل بلم شملهما.
كان يمكن لإيران أن تتعلم من الدروس الألمانية واليابانية والصينية والتركية التي غزت العالم ونجحت تجاريًّا واقتصاديًّا في حين فشلت عسكريًّا، وأن تستفيد من ثرواتها في رفع مستوى معيشة شعبها، وأن تسعى لعلاقات حسن جوار وعيش مشترك مع محيطها بدل تصدير ثورتها، وشعارات الموت لأميركا وإسرائيل، وثأرات الحسين ومظلومية آل البيت التي قُتل باسمها مئات الألوف من المسلمين.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.