من يلاحظ التطورات الأخيرة على الساحة العربية عموماً، والمشرق خصوصاً، يكاد يجزم بمدى تأزم الوضع على كل المستويات، حيث لم تعد شعارات الممانعة أو العمالة شغالة على نفس النغمة التي كانت عليها قبل سنوات، بل صار الارتماء في حضن الأجنبي أيًّا كان -فارسيًّا أو روميًّا- مفخرة يتنادى بها أرباب السياسة والدين والفكر في شتى ساحات الأزمة اليوم في بلاد العرب، في مشهد من الاصطفاف الحاد والتطرف المذموم والاستقطاب الذي لا نظير له.
كأنما الجميع يعد لمعركة حاسمة فاصلة، الرابح الأوحد فيها بالطبع من يحرك جميع الفاعلين والقوى على الأرض وهو بمنأى بالطبع عن تأثيرات الأزمة كلية، بل ويستفيد منها على كل الأصعدة، وإن تورط فيها أحياناً، لكن بما يضمن له استمرار الاشتعال ودوام الاستنزاف.
ومن يرى المشهد في المغرب العربي عموماً والجزائر خصوصاً، يعتقد أن ساحتها بعيدة عن هذه التجاذبات، بل وفي مأمن من الصراع الدائر في ضفة المتوسط الشرقية، لكن الكثير من المؤشرات التي تلوح في الأفق قد لا تبشر بخير، وتجعل الركون إلى الاطمئنان في هذا الوقت بالذات من الغباء وقلة الفطنة.
في ظل حالة من التخبط السياسي والتنابذ الحاد بين كل الأطراف السياسية من سلطة ومعارضة، وانشغال المسؤولين الحاليين والسابقين في الردود والردود المضادة على تصريحات وقضايا العشرية السوداء والثورة التحريرية ومرحل ما بعد الاستقلال على أهميتها، إلا أنه لا ينبغي التناسي أنه في خضم ذلك تغافل الجميع عن أدوار بعض القوى الأجنبية التي تحاول بجهد أن تنال موطئ قدم على الساحة الوطنية، ولعل بعضاً من إرهاصاتها:
تبرأ وزير الخارجية الجزائري من بيان وزراء الداخلية العرب، الذي صنف حزب الله كحركة إرهابية، ما دفع الحزب إلى تثمين موقف الجزائر -الممانع- ويرتقب أن يخرج الأمين العام للحزب حسن نصر الله بكلمة يشكر فيها الجزائر على مواقفها الداعمة -للمقاومة- وهو الأمر الذي جعل داعش ليبيا تهدد الجزائر في بيان لها على أنها ستنال -الجزاء المناسب- لدعمها -للكفرة والمرتدين- على حسب وصفها.
ما يجعل الجزائر اليوم هدفاً أكثر من أي وقت مضى لمخططات ما يسمى ب"الدولة الإسلامية" ومن خلفها، دون أن ننسى العمل الدؤوب للسفارة الإيرانية بالجزائر وملحقها الثقافي -أمير موسوي- لدعم التشيع بشتى الوسائل في محاولة لخلق أقلية شيعية، الأمر الذي يحدث بعيداً عن رقابة أجهزة الدولة ودون متابعة منها رغم الحملات المليونية على وسائل التواصل الاجتماعي لطرد الملحق لكن دون جدوى، ما يعطي انطباعاً بأن الأمر يتم برضى من السلطات المخولة، ولعل الأمر يشابه إلى حد ما ما حدث في الضاحية الجنوبية لبيروت والتي كانت في خمسينيات القرن الماضي تربة خصبة لكل الأفكار القومية واليسارية والاشتراكية، لكنها اليوم مروراً بعدة محطات تاريخية المركز الحاضن لحزب الله والفكر الشيعي وأغلب سكانها من الطائفة الشيعية، وكذلك الأوضاع الراهنة المتعلقة بأسعار النفط وأسواقه بعد الاتفاق النووي الغربي مع إيران ورفع العقوبات الاقتصادية عنها وطموحها المتزايد للدخول إلى الأسواق العربية وعلى رأسها الجزائر.
المحاولات الجاهدة لإيران الفقيه في هذا الاتجاه، ينبغي أن تواجه بحزم لما في ذلك من تدخل سافر في الشؤون الداخلية للدولة الجزائرية بما يشكل خطراً على هويتها ومبادئها ويمس بوضوح مقومات شخصيتها، كما أن القوى السياسية الفاعلة على الأرض وفعاليات المجتمع المدني، ينبغي بها أن تولي هذا الموضوع جانباً من الاهتمام؛ لأننا جميعاً لا نريد أن يأتي يوم تصبح فيه بلادنا ساحة لأي صراع ولا امتداداً قوميًّا لأي طرف ضمن أي معادلة، كما ينبغي أن توضع سياسة الجزائر الحيادية، ودعمها لقضايا التحرر والمقاومة ضمن السياق الصحيح، دون ترجيح لكفة المصالح الراهنة على حساب المبادئ والقيم، ودون تنازل عن الإرث التاريخي والديني العريق للشعب الجزائري.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.