طرابلس، ليبيا – مشهد يلوح في الأفق لباب الكنيسة الضخم الذي يبدو محطماً، والحارس النيجيري ينظر بعين الحذر نحو الشارع المهجور.
ورغم أننا في صباح الأحد، فلا يتوقع أن تستقبل الكنيسة العتيقة الموجودة بمدينة طرابلس، والتي تشرف على مجموعة من الأزقة الملتوية، سوى عدد قليل من المصلين. وتنتمي الكنيسة الأنجليكية العتيقة إلى القرن التاسع عشر. قال "أوكي"، حارس الكنيسة، إن الجماعة الموجودة هنا معظمهم من الأفارقة المهاجرين. لكنهم يمكثون الآن بعيداً خوفاً من الجماعات المسلحة الشرسة التي تطوف شوارع العاصمة.
لذا فالمهاجرون يبقون متخفين ريثما يهدأ البحر خلال الصيف من أجل أن يقتنصوا الفرصة للهجرة إلى أوروبا. وأوكي، ذلك الحارس، ينتظر فرصته هو الآخر، ويدّعي، بل ويصر على ادعائه الذي يبدو غير محتمل، أنه ينوي التقدم من أجل الحصول على التأشيرة، بحسب تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية.
قال أوكي: "سأفعلها خلال هذ العام، أو ربما العام القادم".
كل شخص في طرابلس يبدو متحفزاً لشيء، تلك المدينة الهادئة شكلياً والمتوترة داخلياً جرّاء الحرب الغريبة التي تدور رحاها في ليبيا. ومع ازدياد وتيرة الصراع في كل أنحاء البلاد- سواء في مدن الشرق التي تدمرت مثل بنغازي أو سرت، حيث يحكم تنظيم الدولة قبضته عليه – يسود العاصمة هدوء يبدو حذراً.
المهربون يستعدون
المهربون ينتظرون في الميناء، والمهاجرون ينتظرون الإشارة، وفي الجانب الآخر من المشهد تظهر الجماعات المسلحة بجوار الساسة المتنازعين، يبدون أنهم متحدون شكلياً لكنهم يتنافسون بهدوء فيما بينهم من أجل السيطرة على زمام الأمور.
ومع كل تلك التفاصيل، تطفو على سطح الأحداث بطرابلس طبقة هادئة ومتكلفة، بل وقد تبدو مزدهرة، على عكس الصورة الحقيقية للبلد الذي مزقته الحرب.
تظهر حركة مرور على الطريق السريع الذي يتكون من 6 مسارات ويمر بضواحي المدينة، بيد أن ساعة الذروة تكون بشعة جراء الدعم السخي للوقود، ما جعل زجاجة المياه أغلى من زجاجة الوقود، فسائق أي سيارة سيدان يمكنه أن يملأ خزان الوقود بدولارين فقط.
تجلس مجموعة من الرجال في إحدى الساحات التي تتوسطها الحجارة الضخمة، تحت برج الساعة العثماني، ومعهم المعدات اللازمة لإعداد القهوة: الكرواسون، وشرائح المحمول، والسجائر، وأكواب ورقية ممتلئة بالقهوة البيضاء الليبية.
وفي أفضل مناطق التسوق القريبة من المبنى الإيطالي القديم، كانت ثمة صالة ألعاب رياضية ومحلات البيتزا، بالإضافة إلى منافذ لبيع ماركات الأزياء الأوروبية. ليس من المعتاد أن تحتوي مناطق الحروب على منافذ بيع لماركات مثل "بينيتون" و"ماركس آند سبنيسر"، أو ماركة "هوغو بوس" التي استطاع العاملون بمنافذها تخزين بضاعتهم بشكل جيد، ولكن الحال في طرابلس يختلف كلياً.
مشاكل أيضاً
وبعد حلول الظلام على شاطئ البحر، يلعب الصبية كرة القدم تحت شجر النخيل، بينما يدخن الآباء النرجيلة، ومعهم أجهزة واي فاي محمولة تمكنهم من الدخول إلى شبكة الإنترنت.
ومع هذا فإن الصورة عن كثب تحمل الكثير من المشاكل. فالمحلات الأنيقة تكاد تخلو من الزبائن لأن قليلاً منهم يمكنه أن يتحمل تكلفة شراء منتجاتها. وليبيا الغنية بالنفط، التي خضعت للحكم المثير للجدل للعقيد معمر القذافي، قد صُرمت نوقها وجفّ الخير فيها. فقد تراجع إنتاج النفط فيها، كما انهارت عملتها، فضلاً عن أن الاحتياطي النقدي لمصرف ليبيا المركزي انخفض بشدة خلال الآونة الأخيرة.
الأمن في طرابلس أصبح هشاً للغاية، حيث يستطيع الشخص رؤية الكثير ممن يرتدون زياً عسكرياً في أنحاء المدينة المزدحمة، وفي النهاية ينتمي هؤلاء إلى جهات وميليشيات مختلفة لا تعد ولا تحصى. بعضهم ينتمي إلى تنظيمات إسلامية، وآخرون يتبعون تنظيمات مسلحة مقرها مدينة مصراتة القريبة من طرابلس، بالإضافة إلى آخرين ينتمون إلى مجموعات مسلحة محلية.
حالات السرقة والخطف وانتهاك حقوق الإنسان أصبحت متكررة، كما يتكرر إطلاق النار في أحياء مختلفة كل ليلة، ولا يعلم أحد ماذا يحدث، هل هو حفل زواج، أم تبادل لإطلاق النار؟ لا أحد يعرف ولا أحد يريد أن يسأل عن الأمر.
تحدث كثير من الأمور المتناقضة أيضاً. ففي إحدى الليالي، اتفق أحد محرري صحيفة "نيويورك تايمز" مع أحد المسؤولين الرسميين في ساحة أحد الفنادق، ولكن مع وصول محرر الصحيفة مع صديق له إلى الفندق، صاح المسؤول بصوت عالٍ في وجهه قائلاً: "أنا لم أوافق على مقابلتك!" بعد أن كان قد ساعد المحرر في الوصول للفندق من خلال الهاتف. ربما كانت ثورة الرجل ما هي إلى محاولة للفت الانتباه وجذب الأنظار، وربما تكون لصالح شخص آخر، إلا أن المحرر وصديقه غادرا بهدوء في نهاية المطاف.
ملاحظة أخرى واضحة بالمدينة، إنها ندرة الأجانب بشكل كبير، حتى العاملين في المنظمات التي اعتادت العمل تحت أية ظروف، كالأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة والسفارات، هؤلاء أيضاً تم ترحيلهم من المدينة إلى تونس حفاظاً على سلامتهم منذ أكثر من عامين. مازال يُنظر للأجانب في المدينة حتى الآن على أنهم جواسيس يتبعون جهات ليبية مشبوهة، كما أصبحوا بمثابة الطُّعم بالنسبة لكثير من المجموعات التي تحتجز الرهائن والتي تنتشر في أنحاء المدينة.
فرص للخاطفين
قال مهند المحجوب (30 عاماً)، وهو قائد عسكري في إحدى المجموعات: "لقد أصبحت طرابلس أرضاً للفرص مثل الولايات المتحدة، ولكن الفرص هنا للخاطفين"، حيث التقت به الصحيفة في أحد شوارع طرابلس داخل سيارته رباعية الدفع، وقد بدا ودوداً أثناء حديثه، وتحدث عن الكثير مما يجول في فكره فيما انعكست أضواء الشوارع على ندبات وجهه. توقفت السيارة في إحدى نقاط التفتيش جنوب المدينة، قبل أن تستمر الرحلة مجدداً ويحكي المحجوب عن وساطته لعقد هدنة مع إحدى الجماعات الأخرى في المدينة، حيث يقول: "بمجرد أن جلسنا معهم، وجدنا أننا نقاتل لأجل الأمر ذاته".
هكذا يحتاج البعض في ليبيا لأن يتذكروا السبب الرئيسي للنزاع من الأساس. وللوهلة الأولى ستفهم أن الحرب في ليبيا يقودها صراع مسلح غاية في العنف بين عدة قبائل وجماعات لأهداف مختلفة، أهمهما المال والنفط والدين، كما أن ثمة دولاً خارجية تتدخل بشكل مباشر في اتجاهات تلك المجموعات.
أشار المحجوب إلى عينه الزجاجية التي ركبها، بعدما فقد عينه بسبب شظية من قذيفة هاون أثناء القتال للإطاحة بالقذافي في 2011. بعد الثورة حلم بأن يصبح طياراً على إحدى الطائرات التجارية، وخطط للانتقال إلى كندا لتحقيق هذا الحلم، إلا أنه قال بابتسامة خافتة إن هذا الحلم لم يتحقق على الإطلاق.
مشاريع نص مكتملة
وإن تجولت في المدينة ترى مليارات الدولارات التي تم استثمارها في مشاريع نصف مكتملة تظهر في الأفق. فترى أبنية غير مكتملة لفنادق ومراكز تسوّق وعمارات، وجميعها توقف العمل بها منذ 2011، بما فيها المسجد الذهبي الذي أرادت صفية – زوجة القذافي الثانية – بناءه، لكنها تعيش حالياً في عُمان.
لم يتبق الكثير من آثار القذافي نفسه في المدينة التي حكمها لأكثر من 40 سنة، فقد تحول مجمع "باب العزيزية" الذي بناه القذافي إلى مكب كبير للقمامة. لم يتبق من آثار القذافي اليوم سوى محطة فضائية يقوم ببثها مجموعة من محبيه من خارج البلاد. بيد أن السؤال الأساسي الذي ظهر مع الإطاحة بالقذافي يلوح في الأفق حالياً أكثر من أي وقت مضى، وهو: هل يمكن لدولة لم توحدها سابقاً سوى الثروة النفطية أن تتحد الآن لأي سبب آخر؟
ربما ينفد الوقت حالياً دون العثور على الإجابة. فالاحتياطي النقدي الليبي، والصراعات المتعددة للمجموعات في الداخل أصبحت تهدد الدولة بقوة، فقد قام كثير من الصيادين بتحويل سفن الصيد الخاصة بهم إلى ناقلات تقوم بتهريب الوقود بأرخص من ثمنه إلى تونس ومالطا، ما انعكس أيضاً بقوة على سوق الأسماك داخل البلاد.
الطحين الليبي رخيص الثمن أصبح من النادر العثور عليه أيضاً سوى في مناطق بالقرب من الحدود مع مالي، في حين يتخذ البعض من التجارة واجهة لعمليات أخرى مثل غسيل الأموال تحت مسمى تجارة المجوهرات أو الملابس وغيرها، ما يعد باباً خلفياً لمئات الآلاف من العملات الأجنبية التي أدت إلى ازدهار تجارة العملات داخل البلاد أيضاً.
شراء الدولارات
في لقاء مع أحد المسؤولين المصرفيين من مقهى مطل على البحر، قال إن رجال الأعمال الكبار وقادة الميليشيات يقومون بشراء الدولارات من البنك المركزي الليبي بالسعر الرسمي له، سواء من خلال سحبها ببطاقات الائتمان في تركيا (يبلغ عددها 500 ألف بطاقة) أو من خلال أنشطة استيراد وهمية، لا تأتي فيها سوى شحنات فارغة إلى الموانئ الليبية. وبعد ذلك، يبيع هؤلاء تلك الدولارات في السوق السوداء، وهو ما يضمن مضاعفة ثروتهم في النهاية لثلاثة أضعافها. وأضاف قائلاً: "إنها تجارة سهلة، لقد حولت الكثيرين إلى أثرياء".
بدأت طبول الحرب تدُق مؤخراً من جديد، وفي وجود اللواء الليبي خليفة حفتر – الاسم الأبرز شرق ليبيا – الذي استطاع مؤخراً السيطرة على الكثير من مناطق بنغازي، بينما تدرس كل من واشنطن ولندن وباريس ودول غربية أخرى بدء حملة عسكرية بالتنسيق بينهم ضد قوات تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا، فلا يوجد سوى قليل من الآمال حول هدوء الوضع الحساس في طرابلس.
في غضون أشهر قليلة، ستعود قوارب المهاجرين من جديد لتنطلق من شواطئ البحر المتوسط في ليبيا. وبالنسبة لأوكي – حارس الكنيسة – قد تكون هذه لحظة الاختيار: إما بالدعاء لهؤلاء المهاجرين، أو بالانضمام إليهم في رحلتهم.
هذا الموضوع مترجم بتصرف نقلاً عن صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية.