الإعجاز في التوفيق بين الصحيفة و تويتر والتلفاز!

حتى الساعة، لا يزال الذهن البشري صامداً أمام الضخ المعلوماتي المتراكم، على الرغم من الضرر النفسي والصحي الكبير الذي يسببه استخدام التقنيات الحديثة، لكن السرعة الكبيرة لتطور هذه التقنيات تسير بأشواط أكبر من قدرتنا كأفراد وجماعات على التأقلم.

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/07 الساعة 03:27 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/07 الساعة 03:27 بتوقيت غرينتش

"لا بد من كاتب رديء باستمرار، وذلك لأنه يشبع ذوق الأجيال الشابة التي لم تتطور بعد. ولهذه الأجيال حاجات كما الآخرين تماماً. هناك دوماً غالبية من العقول المتخلفة ذات الذوق الرديء. هذه العقول تطالب، وبكل عنف الشباب، بإرضاء وإشباع حاجاتها وتتسبب في وجود كُتَّاب رديئين مخصصين لها".

الفيلسوف الألماني فريديرك نيتشه.

لطالما شغلتني حيرة العمل ما بين المكتوب العميق والمرئي السطحي!

قد لا يكون التوصيف أعلاه دقيقاً، فليس كل مرئي سطحيًّا ولا كل مكتوب عميقاً. ولكن ما أود الإشارة إليه هو الانطباع السائد بأن الصحافة المكتوبة تتيح خيارات أوسع للكاتب والقارئ مقارنة مع البث التلفزيوني الذي بات "يجتر" الأخبار العاجلة في محاولة لكسب السباق مع شبكات التواصل.

في العقدين الأخيرين أدت الطفرة في الفضائيات في عالمنا العربي إلى تشكل مفاهيم جديدة في صناعة الأخبار، وبلغت بعض الفضائيات الرائدة ذروة قدراتها بدخولها على خط صناعة الحدث، بدل السبق في تغطيته. غير أن قوس صعود هذه الفضائيات سرعان ما بدأ بالهبوط، تارة لأسباب سياسية وتارات أخرى نتيجة التحديات التي فرضها واقع الإعلام الجديد أو الحديث المرتكز في شِقِّه الشعبي على شبكات التواصل الاجتماعية، بحيث باتت مصطلحات الصحافة التقليدية وعناصر الخبر بحاجة إلى إعادة صياغة تراعي تبدل الأوعية المعرفية وأساليب تلقي الجمهور للأنباء، كما طغيان ثقافة "الترافيك" على عمل معظم الوسائل الإعلامية على حساب المهنية والدقة والعمق في كثير من الأحيان.

عندما بدأ الاحتراب السوري قبل خمس سنوات، اتخذتُ قراراً بالتوقف عن مشاهدة نشرات الأخبار التلفزيونية، كون مشاهد الدم التي سبقت في ساحات "الربيع العربي" كانت تؤشر إلى ما ينتظر بلاد الشام، واستعضتُ عن ذلك بمتابعة 3 صحف عربية محددة تتبع لتوجهات مختلفة بشكل يومي.

ولا أخفيكم سرًّا أن هذا القرار وضعني مرارًا في مواقف حرجة، خاصة وأن عملي في الإنتاج التلفزيوني، وفي الأفلام الوثائقية السياسية تحديداً، يستوجب مني البقاء على تماس مع نشرات الأخبار في كبرى الفضائيات العربية. ومع أن متعة القراءة لصحف عربية تقارب مواضيع الساعة من زوايا واسعة وشاملة تكاد تضاهي متعة مطالعة كتاب مفضل، فإن عادتي هذه سرعان ما اصطدمت بانتقال هذه الصحف أيضاً إلى محاولة كسب السباق مع "صحافة المواطن" عبر منابرها في شبكات التواصل الاجتماعي، فطغى نمط "الترند" على عناوين ومضمون مواضيعها؛ وبالتالي فقدت هذه الصحف -برأيي- جانباً مهمًّا من ميزاتها التاريخية في سبيل الاستمرار في جذب القارئ والمعلن في زمن المعلومة السريعة والبسيطة.

ومع تزايد الضغوط التي بات يرزح تحتها قطاع الصحافة المكتوبة في عالمنا العربي نتيجة التحولات الجديدة، فإن آراء بعض كبار الصحفيين في العالم، تؤكد أن الجريدة الورقية لن تندثر، بل ستشهد تحولاً في وظيفتها لصالح المزيد من التعمق في كواليس الخبر؛ لتظل حاجة للعقول الناضجة التي تمتلك أيضاً حاجات متطورة وأذواقاً نخبوية، إذا ما قسنا على نظرية نيتشه أعلاه.

حتى الساعة، لا يزال الذهن البشري صامداً أمام الضخ المعلوماتي المتراكم، على الرغم من الضرر النفسي والصحي الكبير الذي يسببه استخدام التقنيات الحديثة، لكن السرعة الكبيرة لتطور هذه التقنيات تسير بأشواط أكبر من قدرتنا كأفراد وجماعات على التأقلم.

كتب ذات مرة الأستاذ الساخر الراحل غازي قهوجي، أنه يخشى زمناً ننتقل فيه من استخدام ورق الجرائد في تغليف "مناقيش الزعتر" إلى طباعة الجرائد على المناقيش مباشرة! رحم الله غازي قهوجي ورحم عقولنا في زمن الهاشتاغ.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد