عندما كنت يوما محامية في محكمة الجنايات الكبرى 2

وكان خلف قضبان المحكمة قاتل لا أطيق النظر إلى وجهه حتى وإن كان واجبي كمحامية سؤاله وتوجيه التهم له ومواجهتها بها.

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/06 الساعة 02:38 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/06 الساعة 02:38 بتوقيت غرينتش

إنه طبيب أسنان تجاوز من العمر الخمسين عاماً، لم يكن يوماً مظلوماً ولا مجنيًّا عليه، فهي ليست الأولى التي يقف فيها خلف قضبان السجون، تاريخه حافل بعدد من الجنح والجنايات، بل وليست المرة الأولى أيضاً التي يَمثُل فيها متهماً بجرم القتل العمد.
له وجه لا ترتاح عند النظر إليه، فتقاطيعه تكاد تنطق للناظر بسوابق جرم
واتهامات وعقد نفسية وغيرها الكثير.

أحب طبيب الأسنان السكرتيرة التي تعمل في عيادته، فتاة متوسطة الجمال والتعليم والمكانة الاجتماعية، هذا ما ورد في أقواله ولا أظنه صادقاً، فليس مثله من يحب أو حتى يقترب من الحب، ولا أعلم تأكيداً إذا كانت الفتاة حين أحبته على علم ودراية بصفحته الإجرامية السابقة أم كانت على جهل بها، لكني أميل كل الميل لترجيح جهلها على علمها، فقد غير الطبيب بعد قتله لزوجته الأولى -بعد زواج دام أربع سنوات كما سوف أذكر لاحقاً- مكان سكنه، ونقل مقر عيادته إلى موقع آخر قريب من بيته الجديد.

وضع إعلاناً على باب عيادته مكتوباً عليه " مطلوب سكرتيرة تجيد استخدام الكمبيوتر ولديها خبرة في أعمال السكرتارية"، فتقدمت تلك الفتاة لهذه الوظيفة، ولولا حاجتها وحاجة أهلها لما قبلت بتلك الوظيفة وذلك الراتب البسيط جدا، لقد وقع الإختيار عليها ويا ليته لم يقع، فلو كانت العين تبصر ما خبأه لها قدرها ما كانت لتقدم على ما أقدمت عليه!!

ولو كانت النفس تعلم بأي أرض تموت لما اقتربت تلك المسكينة إلى حتفها بأقدامها!! لكنها أقدار يسوقها الله إلى حيث يشاء.

مضت سنة تقريبا على عملها قبل أن يتقدم لخطبتها طبيب الأسنان، اشترطت عليه أن تستمر في عملها بعد الزواج، وأن يكون كامل راتبها الشهري ملك لعائلتها، فهي الابنة الكبرى بين أخوتها وتود الاستمرار في مساعدة والدها ماديا.

قبل الطبيب بشرط الفتاة وتم الزواج، وما هي إلا بضعة شهور حتى أخلف الطبيب عهده ومنع زوجته من العمل، متحججا بحجج واهية وبعد خلافات دارت بينهما طويلا رفضت الفتاة ما طلبه منها مذكرة إياه بأن عملها كان شرطا من شروط زواجها، وأصرت على أن يكون هذا الأمر مقضيا لا محال.

لكن العهود لم تكن يوما ذات قيمة عنده، وأصر على منعها من العمل نهائيا سواء أكان العمل في عيادته أو غير عيادته، مما دفع بها لترك بيتها واللجوء إلى بيت والدها كوسيلة للضغط عليه، لكن ظنها قد خاب فقد ظلت أكثر من شهر في بيت أهلها دون أن يكترث زوجها لأمرها، فما كان منها إلا أن أقامت دعوى طلاق ونفقة. ما أن علم بصنيعها حتى شاط غضبا، ومما زاد من غضبه وجنونه علمه بأن زوجته قد وجدت عملا آخر لها في مكان آخر.

لم يكن ما أقدمت عليه الزوجة نوع من العناد، بل كان من الحاجة، فهي تعلم جيدا مقدار عوز عائلتها لراتبها وإن كان بسيطا، وكان يعلم هو أيضا ذلك جيدا لكنه لم يكن يوما منصفا. توقع الطبيب أن تعود إليه زوجته نادمة طالبة سماحه وغفرانه،" لكن الرياح لا تأتي دائما بما تشتهيه السفن" فقد مرت شهور ولم تأتِ زوجته، بل بقيت حيث ذهبت في بيت والدها وقد أوشكت القضية التي رفعتها أمام المحكمه على نهايتها بحصولها على الطلاق.

دعا طبيب الأسنان زوجته إلى مقابلته مدعيا ندمه ورغبته في إصلاح ما يمكن أصلاحه مما علق بينهما من خلافات طالت لشهور عديدة، لبت الزوجه دعوة زوجها فحضرت إلى العيادة بناء على طلبه، كان الباب مغلقا فدقت الجرس وفتح زوجها لها الباب، استقبلها بالود والترحاب، ثم أعاد إغلاق باب العيادة.

طلب منها أن تعود إلى بيتها وتخضع لشروطه لكنها رفضت طالبة منه تركها وشأنها، وبعد أن أيقن أن كل عروضه مرفوضة جملة وتفصيلا، أقدم على خنقها بيدين قويتين وعزيمة أقوى، فكانت كعصفور يناطح ثور، وما أن أيقن الثور من سقوط العصفور قتيلا، جلس يبكي ويبكي ويبكي "كما قال على لسانه في التحقيق الموجه إليه".

وبعد أن أشبع نفسه زورا وبهتانا من شعور الذنب والحزن أكمل ما بدأه من إجرام أصيل لا دخيل في نفسه، وضع القتيلة في أحد أكياس النفايات كبيرة الحجم، وضعها في الكيس وكل ما كان معها الحقيبة، الموبايل، وكل ما يخصها، وحمل الكيس إلى سطح العيادة ووضعها في أحد خزانات الماء وقد اختار خزان ماء خاوياً من الماء نهائيا.

ثم نزل إلى العيادة وأحضر مواد تنظيف كيميائية شديدة التفاعل يستعملها في عيادته، وصب على القتيلة كل تلك المواد التي يبدو أنه أحضر كميات كبيرة منها مسبقا عن سبق إصرار وتخطيط، بالرغم من نفى ذلك في أقواله.

وبعد أن ملأ الخزان إلى نصفه تقريبا بتلك المواد الكيميائية قام بإغلاقه بقفل قد أحضره معه، ثم نزل إلى العيادة يزيل أي أثر لجريمته، وبقي في عيادته طوال اليوم والباب مغلق عليه.

قضى ليلته هناك وفي صباح اليوم التالي، فتح باب العيادة في موعد فتحها المعروف كأي يوم، مدعيا أنه قد وصل إليها الآن.

كان من الطبيعي أن يبحث أهل الزوجة عن ابنتهم بعد غيابها عن البيت، وأول من حضر إليه أهلها للسؤال عنها هو الزوج الذي نفى مقابلته لها، وادعى أن الخوف سكن قلبه لغيابها عن بيتها، فشارك أهلها بالبحث عنها.

قدم الأهل بلاغاً لدى الشرطة عن غيابها الذي طال ثلاث أيام، حضر الطبيب إلى المركز وعند استخراج ملفه الجنائي ظهر ما كان يخفي عن الجميع وهو قتل زوجته الأولى منذ أكثر من خمس سنوات، وحكم عليه بالسجن المؤبد مع وقف التنفيذ.

ولمن يجهل المعنى القانوني لعبارة وقف التنفيذ أفسرها له "بأنها عبارة قانونية تعني أن الحكم القضائي الذي سبقها قد سجل في الصفحة الجنائية للمتهم، إلا أنه لظروف أو أسباب خاصة أحاطت بالجريمة أو المتهم، جعلت من ذلك الحكم موقوفا عن التنفيذ، كالدفاع عن النفس مثلا، فالشخص قد يقدم على القتل أحيانا دفاعا عن نفسه، يأتي القضاء ليثبت عليه جرم القتل، ولكن لوجود سبب قوي دفع بالشخص للقتل "وهو الدفاع عن نفسه" وهو أمر طبيعي لأي شخص قد يقع بنفس الحالة، تتبع المحكمة حكمها "بوقف التنفيذ".

وهذا ما حدث فعلاً في جرم القتل الذي أقدم عليه الطبيب ولكن لم يكن بالتأكيد دفاعا عن نفسه، إنما ادعى سوء سمعة زوجته الأولى "والله أعلم"، ولن أستفيض بهذه الجزئية من ادعاء المتهم الذي أثق كل الثقة أنه ادعاء زور وبهتان.

ما أن علم الأب بما أخفاه زوج بنته حتى وجه إليه الاتهام وراء اختفاء بنته، وكإجراء عادي من الشرطة فتشت بيت الطبيب وعيادته، صعد بعض أفراد الشرطة إلى سطح العيادة فكانت رائحة المواد الكيميائية شديد جدا مما دفعهم إلى إخبار الضابط الأعلى رتبة منهم، صعد هو الآخر إلى سطح العيادة وطلب فتح الخزان، إلا أن الطبيب أنكر أنه يملك مفتاح القفل الموضوع عليه، فكسر القفل من قبل الشرطة، كان مشهداً بشعاً بكل ما في حروف الكلمة من معنى، لم تكن الجثة قد تحللت كليا لكن معظمها قد تآكل بما وضع عليها من مواد.

كانت الجثة تحتاج إلى وقت أطول لتتآكل كليا وتنتهي عن الوجود، أصر الطبيب على أقواله السابقة بجهله بما حدث، لكن شيئا لم يخطر على باله، ولم يحسن التخطيط له، فكما قال الله عز وجل في كتابه الحكيم، بسم الله الرحمن الرحيم
"ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" صدق الله العظيم.

إنها سيارته التي كانت تقف في مكانها المخصص تحت عيادته وقت ارتكابه جريمة القتل، وشهادة أحد أصحاب المحلات تحت العيادة بمشاهدتهم القتيلة تدخل إلى العيادة يومها، فهم يعرفونها جيدا فقد كانت سكرتيرة لمدة عام تقريبا وشكلها مألوف لديهم.

وبعد تحقيق طويل مع الطبيب الذي كان من الصعب عليه إزاحة التهمه عنه، إعترف بقتل زوجته، ولكن إلى أين سوف ينحدر كذبه ومكره؟ وبما عساه يبرر إجرامه؟ لقد ادعى أن قتله لزوجته لم يكن عن سابق إصرار إنما عن ثورة غضب، فقد كان ينوي خيرا عندما استدعاها لعيادته، لكنها تعمدت إثارة غضبه وسخطه عليها حتى وقع ما وقع منه بلا وعي ولا إدراك.

كان موكل المتهم محامي جنايات معروفاً، وكانت أستاذتي "التي سبق ذكرها في الجزء الأول من هذه التدوينة والحديث عنها بات معروفا"، هي الموكلة عن المجني عليه ممثلا بأهلها، وكنت أنا محامياً ثانياً إلى جانب الأستاذة في هيئة الدفاع، دفع الموكل الأول عن وكيله تهمة القتل بثورة الغضب التي غيبت عقله وقت ارتكاب جريمته، ملتمسا له عذرا مخففا لجرمه، وطلبنا نحن في لائحة ادعائنا، عن موكلنا" أهل المجني عليها" أشد العقوبة له كقاتل استخف بأرواح البشر، متذرعا بأسباب واهية ضعيفة كاذبة.

وبعد سجال طويل في أروقة المحكمة وقاعاتها، جاء موعد الجلسة النهائية للنطق بالحكم، فمثل المتهم مكبلا بالقيود أمام محكمة الجنايات الموقرة للمرة الثانية، وبنفس التهمة السابقة "القتل العمد"، قاتل يقدم على القتل مرتين والضحايا في المرتين هن زوجات له، نظرت إلى قاعة المحكمة التي امتلأت يومها بالحضور، منهم الجالس ومنهم الواقف الذي لم يجد له مقعدا، ومنهم تم إخراجه خارج القاعة لشدة ازدحامها، فالكل قد حضر ليشهد الحكم على قاتل زوجاته، كانت أم القاتل من بين الحضور، كانت الحاضرة دائما في جميع الجلسات، وقد سبق وأن تحدثتُ إليها سابقا مرارا وتكرارا.

كانت تدعو الله سرا وعلانية لولدها العاق بالنجاة من محنته، وكان من بين الحضور أيضا أم الزوجة المغدورة، التي ما كانت يوما عاقة لأهلها بل على العكس تماما، كانت نعم البنت ونعم الزوجة وكانت تدعو الله أيضاً سرًّا وعلانية بأن ينال قاتل بنتها عقوبة الإعدام شنقا.

هذه أم وتلك أم وليس لأحد أن يطلب من أم أن تكون حيادية وسطية في حب ولدها، سواء كان ظالما أو مظلوما.

وكان خلف قضبان المحكمة قاتل لا أطيق النظر إلى وجهه حتى وإن كان واجبي كمحامية سؤاله وتوجيه التهم له ومواجهتها بها.

وصلت هيئة القضاء، كلنا آذان صاغية، بدأت المحكمة بقراءة منطوق الحكم بصوت عالٍ أمام الحضور كما ألزمها القانون، وبعد سرد أسباب قانونية، وإثبات وقائع مادية، قالت المحكمة الموقرة "لكل ما ذكر سابقا، وأنه في تاريخ…، أصدرت المحكمة ممثلة بالقاضي رئيسا للمحكمة…، والقاضي…، والقاضي…، الحكم على المتهم X بالحبس خمسة عشر عاما مع الأشغال الشاقة، عن جرم القتل".

حكم وقع كالصاعقة على رؤوس جميع من حضر الجلسة، صيحات اجتجاج وغضب تعالت في أرجاء القاعة، الكل غاضب من منطوق الحكم، سوى واحد فقط لم يكن القاتل، إنها أم القاتل، التي كان يبدو عليها علامات الفرح والسعادة، فقد كانت تتمنى الحياة لولدها، فالحبس أفضل بكثير من الإعدام، وهي كما قلت سابقا أم ويحق للأم ما لا يحق لغيرها، لكن القاتل خلف القضبان كان غاضبا من الحكم عليه بالحبس، ولا أدري لِمَ كان غاضباً!

هل وجد نفسه اليمامة البيضاء التي لم تذنب لتستحق الحبس! أم صدّق أكاذيبه التي دفع بها عن نفسه بأن ثورة الغضب قد أعمت بصيرته! جلست ألملم أوراقي وأضعها في حقيبتي وكلي خيبة وحزن، كنت أشتهي له الأعدام شنقا، لكني أعلم يقينا أن القضاء لا يميل في أحكامه إلى الأهواء والرغبات، فقد استقر في وجدان هيئة القضاء بناء على ما قامت به من تحقيقات وثبوت أدلة، بأن القاتل يعاني اضطراباً أو مرضاً نفسيًّا، استحق بمقتضاه ذلك الحكم القضائي.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد