ألا يكفي أن أصير غريباً في وطني والسببُ نِضَالي؟!
ألا يكفي أن أكون من المعدودين الذين يناضلون بـ"سيف الكَلِم"، وأصرخ مستغيثاً بعالم كل من يسكُنُهُ باتوا صمًّا؟!
ألا يكفي كل ذلك ليكبَّل الكَلِمُ بسلاسل الواقع الأليم، وليُقتل الأمل في عالم الألم؟!
لا.. هنا لا يكفي! بل زاد عليه أن أُحرَمَ نضال الكَلِم بسبب الحروق التي أصابت يدي ورقبتي وظهري، فلم أقوى على طرق آخِرِ بابٍ أُتيح لي النضال به أشهراً!
( كل ما في بلدتي يملأ روحي بالكمد
بلدتي غربة روح وجسد
غربة من غير حد!
غربة فيها الملايين وما فيها أحد!) "أحمد مطر"
من داخل زنزانة مظلمة لا تضيئُها أشعة الشمس في اليوم سوى بضع ثوان.. مساحتها بضعةُ أمتارٍ، ونصيب الفرد منها بضعةُ سنتيمتراتٍ لا ترتقي لمساحة قبر!
ضوؤها خافتٌ يشبه الضوء الذي يتسرب من نافذة في قبو داخل حي لا تقل فيه المباني عن عشرة طوابق.. جوها قاتل.. قارس البرودة شتاءً، حارٌ كحرارة جهنم صيفاً.
المخلوقات فيها هي الإنسان وكثير من الحشرات هنا وهناك.. لن ترحل عنك مهما حاولت!
الحريةُ هنا تتلخص في كونك معصوماً من السب والقذف والضرب لبضع دقائق..
من هنا.. أحدثكم وأحدث نفسي وأحاول البوح عن مكنون صدري..
أتعبتني الغربة وأنا في وطني!
أرقني النفيُ من عِدَادِ الأحياءِ وأنا ما زلت منهم!
أحزنني وأهمني أن المناداة بالحرية والمطالبة بها وطرق أبواب المنظمات الحقوقية صار مذموماً، والعلة أن "الكُلَّ" مظلوم!
ومن قال إنني أُنكِرُ أن الكل محكوم بالظلم، وأن التعذيب والقهر طال الكثيرين؟!
ولكن.. أَلأنَّ الكل صامت أو البعض لا يُؤثِرُ الكلامَ يُحتَّمُ عليّ أن أبتلع لساني.. أن أكبح أملي في الحرية.. أن أدفن رأسي في الرمال كما النعام.. وأن أتوقَّفَ عن النضال؟!
في الوطن قد تكون غريبَ الرُّوح.. وفي المنفى أنت غريب الرُّوح والجسد.. أما في السجن فأنت غريب الروح والجسد والهوية والمعتقد والفكر والنضال!
وما أصعب غربة النضال!
في مصر.. كونك مناضلاً ثائراً تنادي بالحرية لا يستدعي وقوف المنظمات الحقوقية في صفك أو انحيازها لك! ولا حصولك على جائزة نوبل للسلام!
لا..هو فقط يستدعي التهمة بـ"الإرهاب والعمالة والخيانة العظمى وبيع البلد!" وهل اشتَرَتِ البلد أبناءها كي تضمن ولاءهُم؟!
ما العلاقة وما الرابط -في نظرهم- بين تلك التهم والنضال لأجل الحرية؟! لا شيء.. لا شيء سوى أنها تُهَمٌ "مُعَلَّبة" لكل من تسوِّلُ له نفسه أن يحيا حُرًّا!
"أبطال اليوم ضحايا الأمس"!
تتسلل تلك الجملة إلى خاطري بين الفينة والأخرى، فتُثِيرُ صراعاً لطالما حاولت أن أُخَفِّفَ حِدَّته بداخلي..
صراعٌ لا أدري ما أصلُهُ.. أو للحق أدري ولكني أفضل النكران.
أتسائل.. هل من المَعِيبِ أن يُسانِدَ الناس صاحب الفكر المناضل ولو اختلفوا معه؟
هل من المعيب أن يُسانِد الناس المناضل -على الأقل- بكلمات لا تسبق جنازته بثوانٍ معدودة؟!
أين المعيب في الأمر؟ ومن عابَهُ؟ ولأي سبب؟
وفي نهاية المطاف.. لم يتلاشى العيبُ بحلول وقت جنازته؟
كي أوضح ما أقصده.. هكذا تسير الأمور..
هَبَّ الفتى لنُصرةِ قضية يقتنع بصوابها ويرى الحق في طريقها..
حَزَمَ الفتى حقائبهُ وعَزَمَ على السير في طريق النضال..
قَامَ الفتى ينادي بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية..
ثَارَ الفتى.. قاوم الفتى.. اعتُقل الفتى.. أُهِين الفتى.. عُذِّبَ الفتى -كي يعترف بما لفقوه له-.. اتُّهِمَ الفتى بالإرهاب.. مات الفتى!
وما بين "هَبَّ الفتى" و"اتُّهِمَ الفتى بالإرهاب" صمتٌ طويل يغرق فيه الساسة والمفكرون وأصحاب الرأي وأرباب المنظمات الحقوقية!
ومع الصمت تظاهر بالغباء اللامحدود! تظاهر بالعمى والصمم..
إلى أن "مات الفتى".. هُنا فقط هَبَّ السَّاسَةُ يستنكِرون ويشجُبُون ويدينون!
يدَّعُون أن ضباباً كان يخيم على سماء الكون فحجب عنهم الرؤية..
وكتب المُفَكِّرون والحقوقيون على صفحاتهم كلمات المواساة، ودعموها بـ"إيموشنات" حزينة ومتألمة..
وقام الأهلُ يحملون النعش في جنازة صامتة (هذا إن سمح لهم بذلك).
خلاصة الأمر..
تنتظرون الجنازة كي تشجبوا وتستنكروا!
فهلَّا بكرتم الشجب قليلاً لو تكرمتم؟!
اسمي إبراهيم.. صرت غريباً في وطني كوني أناضل لأجل حريتي.. أقبع ظلماً في السجن منذ ما يقارب الثلاث سنوات ضمن آلاف القابعين في السجون بتهمة الإرهاب!
محاولا استرداد حريتي أضربت عن الطعام إضراباً كاملاً طويلاً "574 يوماً"..
اضطررت بعدها كي لا أفقد حياتي وبسبب الحروق التي أُصِبتُ بها إلى تحويل إضرابي الكامل إلى إضراب جزئي عن الطعام ما زلت مُستمراً فيه حتى الآن..
حُرِمتُ الكتابة أشهراً بسبب تلك الحروق التي أُصِبتُ بها جراء الإهمال.. لكن هأنا ذا أعود لأطرق الباب الذي أُوصِدَ رغماً عنِّي وأكتب كلماتي هذه..
إبراهيم اليماني
طبيب معتقل بالسجون المصرية
فبراير/شباط 2016