ساعدتني خلفيتي الطبية أن أتقابل مع أبعاد أخرى من الألم، ميكانيكيته ومحوريته في حياتنا، كيف تستقبل مريضاً لم يجلبه إليك إلا حاجته لاستعادة الألم بعدما ألحق به فقدانه الأذى الفعلي، فدوماً يرتبط الألم بالإحساس، رغم أن الإحساس مفهومه أشمل جداً، لكن يرتبط الإحساس بجوهر الألم!
ساعدتني أيضاً أن أفهم أن ليس كله واحد، وأنها تتعدد الأسباب ويختلف الألم أيضاً، بل ليس كل الألم واحد في أثره، بل إننا نعالج ألم الفقرات بألم لاصقة الحرارة، فكلاهما ألم، لكن يحزننا ويوجعنا ألم الفقرات، وليس ألم اللاصقة، لأننا نعلم أنه ألم له معنى!
قد يكون الألم هو البوتقة التي تلقى فيها طينة الآدمية لتثمر جوهر الإنسانية، وما أن نكف عن التأوّه والصراخ حتى نُدرك رسالة الألم إلينا، وأن لألمنا معنى، فإن الذين اجتازوا مخاض الألم تمكنوا من رؤية الحياة من منظور خاص، لا موضع فيه للكراهية والحقد والتشاحن، وإنما تشدو فيه ترانيم المحبة والسلام، ما عادوا يريدون ذلك ولا يستطيعونه، ونحن مع الألم بين خياراتٍ ثلاثة: إما أن ننكره فنسمح له بقيادتنا وتوجيهنا، أو نستسلم له ليقتلنا ونحن أحياء، أو نتصالح معه ونقبله لنكتب نهاية ذلك الفصل، ونشرع في كتابة فصلٍ آخر.
إن هروبنا من الألم غير مجدٍ، ومحاولة التخدير لها أمد أقصر من صبر الألم، وإنَّ أرقى وأنقى العناصر التي عرفناها في الطبيعة -الألماس- هو بالفعل قد اجتاز مخاض العزلة، والضغط، والحر، والنار، حتى صفى جوهره، وسمت قيمته، ومن ثم فلا عجب أن النبي محمد ﷺ وكل شخصية غيّرت مجرى العالم من الأنبياء والفلاسفة والحكماء، أو وضعت بصمتها في الفن والفكر والأدب كانت لها تجربتها الخاصّة جداً مع الألم، "إنه بالرغم من تأثير الزمان والمكان والأحداث، فإن الشخصية غالباً ما تنضج تحت تأثير ألمٍ ما"، وعلى المستوى الروحي فإن الزجاج الذي طال عرضه على النار يصبح أنقى ما يكون، وأحسن ما يكون في التقاط النور وتمريره!
إن تفرّد تجربة الألم تجعل صاحبها منعزلاً بين الجموع، فتجربة الألم تجربة خاصّة جداً، لا يمكن مقارنتها، ولذا يقول هنري نوين في صوت الحب الداخلي: "في النهاية يبقى ألمك شخصيًّا جداً وألمي كذلك، حتى أن المقارنة لا تحلب أي تعزية أو عزاء، وإنني ممتنٌ أكثر لمن يفهم ألمي ويُدرِك تفرّده، عن ذلك الذي يخبرني بأن هناك الكثير من المتألمين مثلي![١]
يُظهر الألم أجمل ما فينا، فإن الألم يحرّك قلوب من حوله فتجتمع، التعاون والإخاء والتكافل يظهر أكثر ما يظهر في حضرة الألم، وكل إنسان يبدأ علاقته مع الحياة بصرخة ألم، إعلان قدوم وافد جديد، ولكم توقفت أمام صرخة الوليد لحظة ملامسته هواء الحياة، وكأنه يريد أن يسجّل أول ما يسجّل اعتراف بالنقص الإنساني واحتياج إلى قيمة الله المطلق، لقد خلقنا من أجل موضعٍ آخر، الجنة دار السلام، فطبيعتنا متوافقة مع كدر الدنيا وطبيعتها، ولكننا نزلنا هنا من أجل ظرف طارئ وإتمام اختبار مؤقت، ولذا يقول ابن القيم:
فحي على جنات عدنٍ فإنها … منازلنا الأولى وفيها المخيّم
ولكننا سبي العدو فهل ترى … نرد إلى أوطاننا ونسلم
وأخيراً، فإن الألم هو بوابة التعرّف على اسم خاص جداً من أسماء الله، لا يلمسه إلا المتألّمين، وهو اسم الله "الجبّار" أي جابر قلوب المنكسرين. أن تقيم علاقة حقيقية مع الله تعرف فيها كماله من خلال نقصك، ويأوي قلبك إليه ليمنحك برد رعايته، وكأنه جعل الألم كي لا تركن إلى الدنيا ويحن قلبك إلى موضعك الأوّل من الجنة!
نختم مع كلمات الرائع هنري نوين: "هناك حفرة عميقة بداخلك، في عمق كيانك كما الهوة بلا قرار، لن تفلح في ملئها لأن احتياجاتك لن تنفد أبداً، ….، عليك ألا تُمْتِصَّ بالكامل في ألمك، أو تلهى عنه بأشياء تبقيك بعيداً عن جرحك الذي تريد له الشفاء". [٢]
_______
١- [هنري نوين،صوت الحب الداخلي، ترجمة مشير سمير، ص٩٤].
٢- [هنري نوين، صوت الحب الداخلي، ترجمة مشير سمير، ص٢٠، ٣٥].
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.