بنفس ذلك الهوس الذي يصيب المتصوفين أصابني مس من الجمال، لم أسمع أصواتاً تناديني ولا تجليات تأتيني فجراً، بل كانت تلك الألوان والخطوط والرائحة. كلما حدقت في سقف غرفتي أو أغمضت عيني تنفتح الأبواب الخشبية الضخمة لتأخذني في عمقه بيوتها التي تحتضن أنفاس من سكنوها يوماً والهواء الذي يعبق برائحة حكايات أيامهم الجميلة وقصصهم الشيقة، شبابيك تقف خلفها قصص حب تحققت واكتملت بالتبات والنبات، وقصص هجر حفرت بالدموع أسماء العشاق علي أسطح الأرض الناعمة.
بدأت الحكاية في شهر ديسمبر/كانون الأول عام 2014 بخبر صغير على إحدى الصفحات المهتمة بالقاهرة التاريخية عن هدم بيت تاريخي بمنطقة الدرب الأحمر وبالتحديد في شارع سوق السلاح، كان الكلام عن اتهامات بالفساد لرجال الحي الذين نفذوا قرار الهدم الجائر للبيت التاريخي.
كانت كلمة الفساد دائماً فاتحة أساسية لشهيتي الصحفية، خاصة عندما علمت أنه لم يكن البيت الأول ولن يكون الأخير، ذهبت متحفزة كعادتي تركت سيارتي في بداية شارع سوق السلاح ومشيت علي قدمي، والشارع لمن لا يعرفه شريان يسير في قلب الحقبة التاريخية الممتدة من نهاية العصر الفاطمي مروراً بالدولة الأيوبية ثم العصر المملوكي حتى قلعة صلاح الدين ما يقارب من السبعمائة عام من الحضارة تتراص على جانبيِّ الشارع الطويل الهابط من حافة جبل المقطم حتى يلتقي بشارع درب التبانة الممتد حتى باب زويلة لتبدأ خلفه مباني الدولة الفاطمية..
كنت ظاهريًّا أبحث عن البيت الذي أتت عليه بلدوزرات الحي بينما كانت روحي قد بدأت في التحليق فعليًّا مأخوذة بتلك التفاصيل المبهرة للبيوت القديمة والمساجد الرائعة وروائح المكان المدهشة التي بدت لي وكأنها قادمة من عمق التاريخ.
أخذني السحر ووله التفاصيل لأبعد من كل خطط إجراء تحقيق صحفي ولم أكن أعرف ما الذي كان ينتظرني في مكان قريب، بينما أقف متطلعة لما تبقي من البيت المغدور، عندما فاجأني أحد من تحدثت معهم من سكان الشارع بأن هناك بيتاً آخر يستعدون لهدمه البيت رقم 13 شارع سوق السلاح (بيت مدكور) هكذا قال ورحل سريعاً وبدون تفكير بحثت عن البيت الذي لم يكن يبعد كثيراً، الواجهة المحطمة بقدر ما أزعجني منظرها بقدر ما دعتني بكل ترحاب للدخول وكأنني أدخل لعالمي السحري..
مررت من البوابة لأجد السكان جالسين يجترون حزنهم على البيت الذي تجبرهم مملكته على تركه ليتم هدمه، حوار عادي ووعد بأن أكتب سرعان ما لحقته دعوة بالدخول والصعود لأعلى لرؤية البيت في الطريق لم أكن أعرف أن تلك الدرجات التي أصعدها بهدوء هي درجات دخولي لكل هذا الجمال. يشير لي عم محمد للسقف.. انظري، ويشير: "هو فيه حد ممكن يعمل الشغل دا دلوقت" أنظر لأعلى يصيبني مَس السحر الأخير، يا الله ما كل هذا الجمال؟! أشعر بدوار.. أتماسك.. ولا أعرف كيف يمكن أن أتوقف عن النظر..
يد من رسمت كل هذا في سقف بيت عادي من بيوت الطبقة المتوسطة في نهاية القرن التاسع عشر؟! كيف كان سكان البيت يتعاملون مع هذه السقوف الرائعة؟! هل كانوا يقضون نهاراتهم وليلهم يتطلّعون لهذا الجمال؟! لا أذكر كيف قدت سيارتي للبيت وعدت في منتصف هذا النهار الفارق في روحي بل واهتمامي المهني الذي انصبَّ دوماً على ما كنت أعتبره كتابة جادة وقضايا جماهيرية أوليس الجمال وإنقاذه أمراً جادًّا أيضاً؟!
أوليست محاربة القبح الذي نعيشه ويطبع حياتنا وإحساسنا بطباعه أمراً مهمًّا أيضاً؟ أصبحت أعرف أكثر عن معنى القبح ولماذا أصبحنا نعيشه ولماذا غاب الجمال عاماً كاملاً..
صرت أبحث في الإجابات عاماً كاملاً.. لم أترك بيتاً ولا مسجداً ولا سبيلاً ولا زقاقاً ضيقاً في هذا الشارع إلا ودخلته طرقت الأبواب وجالست البشر وتشبعت عيني وروحي بكل تفصيلة من تفصيلات الجمال.. عاماً كاملاً أجمل روحي بما أرى وأقتات على الحكايات والتفاصيل المبهرة. وأسأل عن مقدار الجمال الذي كان هؤلاء البشر عليه لأنهم سكنوا تلك البيوت؟
"أم أمل".. كانت جزءاً من الإجابة التي كنت أبحث عنها كانت التقائي الأول بسكان هذا العالم الجميل، بعد أن دعتني للصعود بطلتها القمرية من شباكها الذي تحيطه أوراق اللبلاب وشجرة ارتاحت من سنوات الشيخوخة على حافته..
أصعد سلالم البيت الرخامية التي تآكلت حوافها بفعل الزمن، بينما تقبض أصابعي على حافة المسند الخشبي الملساء الدافئة من تراكمات دفء القابضين عليها منذ أكثر من مائتي عام هو عمر بيتها الجميل.
صوت "أم أمل" لا يتوقف عن الترحيب بكلمات رائقة وأليفة أتطلع لتلك السيدة السبعينية صغيرة الحجم التي تحيطها هالة من الجمال المشعّ بنور ابتسامتها ورضاها، أدلف من الباب الخشبي المرتفع لشقتها بالطابق الثاني أتطلع للسقف كعادتي التي اكتسبتها من رحلات الزيارات المتكررة للحي أشعر أنه التصق بالسماء من شدة علوِّه، ألاحظ الحليات الخشب تحيط به بينما أعمدة السقف تراصت في شكل هندسي بديع ابتسم وتبتسم لي أم أمل معلقة: "سُقُف البيوت القديمة كلها كدا" وتكمل: "عندما أذهب لبيت ابنتي رغم فخامته أشعر بالخنقة وأن السقف سيقع على رأسي".
أجلس بجوارها على الكنبة الملاصقة لشباك اللباب كما أسميته أتطلع لساحة البيت وتحكي لي عن فسقية المياه التي كانت هنا يوماً وكانت تلعب حولها هي وأخواتها وهم صغار، رحلوا جميعاً ولم يبقَ سواها، البيت فسيح عليها، ولكنها لا تستطيع أن تتركه، تحكي لي كيف تدخر من معاشها البسيط لترممه حتى لا تصيبه مياه الأمطار بضرر، وعن كيف ناضلت مع وزارة الآثار بعد أن اشتراه بعض المقاولين وأرادوا هدمه حتى اشترته الوزارة وتعهدت هي أمامهم بأن تحافظ عليه..
تحكي هي وأنا تتشبع روحي بحكاياتها عن البيت والجيران وقصص الأشقاء والأب الذي كان قاضياً شرعيًّا عظيماً، تحكي ويتلبسني السحر أكثر، أحتضن كلماتها وحكايتها لأتدفأ بها من برودة شوارع المدينة المتخمة بالعمارات الكرتونية، وأحتمي بالذين رحلوا من قبح المدينة المرعب.
أعود لبيتي متشبعة بالجمال ورائحة الأماكن وسكانها، بينما أعرف أنه في يوم قريب سيأتي هادمون جدد لبيت آخر ليزرعوا مكانه مباني قبيحة تبتلع بداخلها بشراً لن يعرفوا طعم الجمال.
أخاف على مدينتي، وأخاف من خواء روحي لو سقطت بيوتها وأسبلتها وسرقت فسيفساء مساجدها (أكثر من سبعين أثراً تمت سرقة أجزاء منها خلال العشر سنوات الماضية حسب تقرير رسمي لوزارة الآثار في القاهرة القديمة وحدها، بينما لم يحدث إحصاء رسمي لعدد البيوت التي تم هدمها).
أصحو مُبْكِرَةً.. أقفز في سيارتي مسرعةً إلى شارعي الجميل نقطة ارتكاز روحي أطمئن أن (بيت مدكور) لم يهدم بعد وأن "أم أمل" ما زالت تطل من شباك اللبلاب، وأن أرواح الذين سكنوها هنا يوما ما زالت حاضرة وأن أنفاسهم تدفئ الشارع الكبير وتدفئ روحي معه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.