بين مصر والصومال: حكاية عَلَم أزرق

حضر السياسيون الصوماليون إلى منزل السفير في الموعد، وكان بحوزة كل حزب علم خاص به كان يفضل أن يقع عليه الاختيار كعلم للصومال، وجرت مناقشات ومداولات حول جميع التصاميم التي قدمتها الأحزاب، إلا أنه لم يكن هناك علم نال ثقة الحاضرين، وبعد ذلك قام السفير المصري محمد كمال الدين صلاح وقال للقيادات الذين حضروا الاجتماع "إن عند الحاج محمد عوالي فكرة عن العلم وأرى أن نناقشها" فقال الجميع مرحباً بالحاج محمد.

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/29 الساعة 02:37 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/29 الساعة 02:37 بتوقيت غرينتش

قبل عدة سنوات، كنت في نقاش ثري مع مجموعة من أصدقائي من المثقفين المصريين في القاهرة، حول تراجع الدور المصري في إفريقيا عموماً والقرن الإفريقي بصفة خاصة، وتشعب حديثنا إلى قضايا سياسية وثقافية واقتصادية. وعدنا إلى حقب تاريخية حيث كانت مصر المؤثر الرئيسي في المنطقة..

وعندما تناولت تراجع الدور المصري في الصومال في الوقت الذي يسعي فيه البُعداء إلى تعزيز وجودهم في هذا البلد شبه المنسي، قال لي أحد الحاضرين بنبرة غاضبة "أنتم تريدون المصريين يتقتلوا عندكم هناك" فكان ردي أنني لست سياسيًّا ولكنني أعرف أن الأميركي والخواجات كلهم يُقتلون عندنا ومع ذلك فهم مصرّون على التواجد!

وذكرت قصة الدبلوماسي المصري الذي بعثته مصر إلى الصومال في الخمسينيات ليشرف مع لجنة دولية علي نيل الصومال استقلالها من الاستعمار، واستشهد في مقديشو على يد من يُعتقد أنهم عملاء للاستعمار كانوا يسعون إلى تقويض دور مصر في الصومال وفي إفريقيا. وكان للراحل محمد كمال الدين صلاح دور حاسم في رسم استقلال البلاد.

راقت حكايتي للحاضرين وساد جو من الحماس الممزوج بالحزن، ووعدت الأصدقاء بتناول الموضوع في يوم من الأيام، وأنا اليوم أفي متأخراً بهذا الوعد، على أمل أن نرى في المستقبل انعطافة مصرية قوية نحو محيطها العربي والإفريقي؛ لأنها الرائدة بلا منازع للقيام بدور فاعل في المنطقة.
وسيحتفل الصومال هذا العام بالذكرى الـ62 لرفع العلم الصومالي لأول مرة في تاريخ البلاد. ويرجع الفضل في ذلك إلى رجلين عظيمين: أحدهما صومالي وطني، والثاني مصري مناضل -تغمدهما الله برحمته- وهذه مناسبة لتذكر الرجلين وكيف ساهم الحدث في رسم ملامح الجمهورية الصومالية الأولى.

الأول هو الدبلوماسي المصري محمد كمال الدين صلاح (ت 1957) ممثل مصر في المجلس الاستشاري للأمم المتحدة الذي كان يشرف على عملية نيل الصومال استقلالها أو ما كان يُسمى فترة الوصاية الذي عُهدت إلى إيطاليا) وكان هذا المجلس يتكون من الأمم المتحدة، ومصر، والفلبين، وكولومبيا. والثاني هو السياسي الصومالي المناضل الحاج محمد عوالي ليبان (ت 2001) الذي كان عضواً في برلمان الإدارة المحلية أثناء الاستعمار الإيطالي.

وكما تذكر مصادر تاريخية متطابقة، دعا المندوب المصري كمال الدين صلاح قيادات الأحزاب الصومالية آنذاك وأعضاء في البرلمان المحلي تحت الاحتلال إلى مأدبة غذاء في منزله في مقديشو، وكان ذلك في بداية أكتوبر 1954، وقال لهم "إن الصومال سينال الاستقلال بعد عدة سنوات كما هو المخطط، غير أن الصوماليين ليسوا على علم بما يجري، ولذلك أرى أن يتم زرع بذور الأمل في نفوس هذا الشعب وتصميم علم خاص بالبلاد ليرفع إلى جانب العلم الإيطالي في كل مكان في البلاد ليعرف الشعب بذلك ويتعزز تطلعهم إلى حلم الاستقلال القادم".

وأوصى كمال الدين صلاح القادة الصوماليين في ذلك العهد بعقد "اجتماعات تشاورية لاختراع العلم الذي سيكون رمزاً للصومال بعد الاستقلال". وقال لهم: "أمامنا أسبوع واحد لنلتقي مرة أخرى على مأدبة غذاء ثانية في هذا المنزل للبت في هذا الأمر المهم".

وبدأ الناشطون الصوماليون وقيادات الأحزاب في ذلك الوقت مشاورات حثيثة حول شكل العلم المقترح. وبعد انقضاء مدة الأسبوع، اجتمع الساسة الصوماليون في منزل المندوب المصري كمال الدين صلاح، وعرض كل حزب عَلَماً يحمل الشعار الخاص بحزبه سعياً منه لاعتماده عَلَماً للصومال المستقل، إلا أن السفير المصري لم يقتنع بواحد من هذه التصاميم المعروضة باعتبارها ترمز إلى أحزاب وليس عن الصوماليين وعن بلدهم جميعاً.

وخلال الأيام التي أعقبت مأدبة الغذاء الأولى التي أقامها السفير المصري للسياسيين الصوماليين، انعقد لقاء آخر بين السفير المصري محمد كمال الدين صلاح والحاج محمد عوالي ليبان، والذي كانت تربطه علاقة صداقة خاصة بالسفير المصري، وكانت لدى الحاج ليبان فكرة أبدعها حول تصميم العلم الصومالي المستقبلي.

وفي الحقيقة رحب السفير المصري بفكرة الحاج عوالي، حيث اقترح أن يكون العَلَم ذا لون أزرق كالسماء تتوسطه نجمة بيضاء ذات خمسة أضلاع "في إشارة إلى الأراضي الصومالية التي قسمتها قوى الاستعمار الأوروبي إلى خمسة أقاليم عند احتلالها لمنطقة القرن الإفريقي، وقال كمال الدين للحاج عوالي "إن هذا تصميم رائع ويمكن أن يعبر عن جميع الصوماليين"، وأقترح عليك أن تعرضه في الاجتماع حين تقدم الأفكار حول المسألة ليرى الآخرون فكرتك وأعتقد أنهم سيوافقون".

حضر السياسيون الصوماليون إلى منزل السفير في الموعد، وكان بحوزة كل حزب علم خاص به كان يفضل أن يقع عليه الاختيار كعلم للصومال، وجرت مناقشات ومداولات حول جميع التصاميم التي قدمتها الأحزاب، إلا أنه لم يكن هناك علم نال ثقة الحاضرين، وبعد ذلك قام السفير المصري محمد كمال الدين صلاح وقال للقيادات الذين حضروا الاجتماع "إن عند الحاج محمد عوالي فكرة عن العلم وأرى أن نناقشها" فقال الجميع مرحباً بالحاج محمد.

وقف الحاج عوالي وسط القاعة وأخرج من جيب سترته العلم الذي أبدعه وعرضه على الحاضرين واحداً تلو الآخر، وشرح دلالات الألوان وما تستند إليه من معاني رموز وطنية. وعند انتهاء الحاج عوالي من العرض، وقف له جميع الحاضرين وصفقوا له بحرارة، واقترح المندوب المصري نقل الأمر إلى البرلمان المحلي للتصويت عليه تمهيدا لاعتماده رسميًّا.

وفي صبيحة يوم الثلاثاء الـ 12 أكتوبر من عام 1954 تم تقديم فكرة العلم الجديد إلى البرلمان المحلي، ووقف الحاج محمد عوالي ليبان ونشر العلم أمام أعضاء البرلمان المحلي صفاً بعد صف، وتم التصويت عليه بالموافقة بالإجماع. وتذكر بعض المصادر التاريخية بأن أعضاء البرلمان المحلي صفقوا للقرار لمدة خمس دقائق دون انقطاع، وقد غلب عليهم الحماس وانهمرت الدموع من بعض الأعضاء تأثراً بهذا الحدث. وبعد ذلك اليوم تم رفع العلم الصومالي الحالي في كل مكان إلى جانب العلم الإيطالي، ولاح للصوماليين في الأفق آمال الاستقلال، وأصبح للصومال رمز يُعرف به ويميزه من الآخرين.

كان للراحل محمد كمال الدين صلاح إسهامات أخرى في النهوض بالصومال الحديث كتب عنها الأستاذ أحمد بهاء الدين في كتاب بعنوان "مؤامرة في إفريقية" تناول فيها سيرة الراحل واستشهاده في مقديشو عام 1957، وما تبعها من أحداث.

تلك صورة واحدة عن دور مصر الحيوي في المنطقة في الخمسينيات ولا يزال يعيش في وجدان الصوماليين حتى اليوم، فحكاية العلم الأزرق ليست الحكاية الواحدة بين مصر والصومال وإن كانت الأبرز من بين ألف حكاية أخرى بعضها طواها النسيان والبعض الآخر ضاع في زحمة المشاغل لدى صانع القرار هنا وهناك.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد