الحياة بعد الثالثة والعشرين!

هذه الأراضي شربت كثيرًا من دمائنا إلى أن أدمنت طعم الدماء، هذه الأراضي تقتلنا بتلذذ وسادية غريبة، تشتاق إلى طعم دماء محبيها، يكفي ما فُقد من عمر فات وأحلام دفنت وأصدقاء حاوطتهم جدران السجون والمعتقلات، وآخرون احتضنتهم القبور، يكفي ما أخذته منّا دون مقابل

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/29 الساعة 05:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/29 الساعة 05:49 بتوقيت غرينتش

أتممت الثالثة والعشرين، علمت وقتها أنني كبرت ولن أعود كما كنت من قبل، ضاقت الطرق، وضاعت السبل نحو العودة إلى الماضي، لم يكن الماضي سعيداً كفاية، ولكنه بأي حال أفضل من هذه اللحظات التي نحياها الآن، أشعر بالوهن والعجز وقلة الحيلة، أنظر في المرآة فألمح رجلاً عجوزاً، علمت أنني كبرت في اللحظة التي قابلت فيها أحدهم وظننت غباءً أنه يكبرني بكثير، وقتها أعلمني بأنه لم يتجاوز العشرين بعد، شعرت كم أنا عجوز.

علمت أنني كبرت في اللحظة التي أصبحت أحضر فيها مناسبات زفاف الأصدقاء، وعندما يزورني صديقي بطفله الصغير، علمت أنني كبرت عندما رنت كلمة "عمو" آذاني للمرة الأولى من جيل المراهقين الذين يفصلني بينهم بضع سنوات، علمت أنني كبرت في اللحظة التي لم أعد فيها أصغر الجالسين في دوائر النقاش وحل محلي آخرون، أكره أن أكون كبيراً، شاخت روحي فجأة دون أن أدري ودون أن ألحظ متى حدث ذلك، وشيخوخة الروح لو تدري أسوأ بمراحل من شيخوخة الجسد، لقد خُدعوني عندما قالوا لي إن المشيب دليل الشيخوخة الأول، وماذا عن مشيب القلب؟!

من الغباء أن تُحسب الأعمار بالأيام والسنين، التجارب هي الفيصل الأخير، الصراعات الداخلية وتلاطم الأفكار في العقل هي من تجعلنا نشيخ، تطيب الحياة لمن لا يبالي، ونحن للأسف اخترنا أن نبالي بكامل إرادتنا الحرة، لماذا يا الله خلقت الراحة في اللامبالاة والضيق في الاكتراث، نكترث كثيراً لكل ما يدور حولنا فننسى أن نكترث لأنفسنا فنتوه في ملكوتك ونهيم في الحياة ضائعين، نبالي أم لا نبالي؟ أيهما أسوأ يا الله؟ هل نستحقر الحياة بكل ما فيها ونرميها خلف ظهورنا فنعيش بلا تفكير ونركن عقولنا داخل صندوق مغلق، نعيش كالأنعام نستمتع دون وعي، أم نعي للحياة ونفكر دون متعة؟ لم أعد قادراً لا على التفكير ولا المتعة.

كم أتمنى أن يتوقف عداد الزمن لفترة ما، أستعيد فيها ما فقدته على مر السنين السابقة، سنوات قليلة فقدتها من جعبة العمر، سقطت من جيبي دون أن أدري، وعندما حاولت أن أعود لأستعيدها، كان الأوان قد فات، الأبشع من ذلك هو العجز عن مجاراة الحاضر، فبدلاً من أن أهرول لأستعيد ما فاتني أجدني أسير ببطء كطفل يتعلم الوقوف للمرة الأولى وإذا حاولت الجري أسقط على وجهي مغشيًّا عليّ، كل ما في الحياة يتكاتف ليقف أمامي كحائط صد، الدولة لها نصيب الأسد، لا شيء في الدولة يدعو للتفاؤل والعمل بجد لكي ألحق بالركب، لا ركب من الأساس، أصبح الهروب هو الحلم المنشود ولا غيره من سبيل، محاولة إنقاذ ما تبقى من العمر، يكفي ما يقارب ربع قرن من العمر الضائع في لا شيء على هذه الأراضي التي لا تحترم سوى سارقيها، ولا تعطي الخلود سوى للقتلة المجرمين.

هذه الأراضي شربت كثيرًا من دمائنا إلى أن أدمنت طعم الدماء، هذه الأراضي تقتلنا بتلذذ وسادية غريبة، تشتاق إلى طعم دماء محبيها، يكفي ما فُقد من عمر فات وأحلام دفنت وأصدقاء حاوطتهم جدران السجون والمعتقلات، وآخرون احتضنتهم القبور، يكفي ما أخذته منّا دون مقابل، وما قدمناه لها بحب وأمل وغباء من عمرنا وتفكيرنا وجهودنا، يكفي ما سرقته من أيام من المفترض أن تكون أسعد أيام العمر لتنقلب بفضلها إلى أبشع الكوابيس، يكفي ما سقط من دماء، يكفي ما دُفن من أحلام، يكفي ما قُدم من تضحيات، لا سبيل للحب في موطن الكراهية.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد