بعد أن قطعتْ مئات السنين الضوئية في الفضاء الخارجي، هبطت المركبة في منطقة مشوشة المعالم، تجتمع بها الصحاري والغابات وبعض من الأنهار والبحيرات في بقعة واحدة، خرج منها كائنات غريبة لونها أخضر، أعينهم كبيرة، الفم والأذنين غير موجودة إطلاقاً، كنت أنام في العراء غير بعيد عن موقع هبوطهم، شيء ما تحسسني، فتحت عيني ويا لهول ما رأيت، لم أنطق بكلمة ولم أصرخ فقد تملكني الرعب الشديد، منظر لم أتخيله في يوم من الأيام، كائنات فضائية أمامي تتأملني، استجمعت قوتي وحاولت أن أفعل ما يفعلون، يلمسونني فألمسهم، يشيرون بيدهم إليَّ فأشير بيدي إليهم، ينظرون إلى كل شيء حولي فأقوم بالمثل، يتحركون فأتحرك معهم، رغم رفضهم لي لأنني لا أشبههم في مشيهم فأنا مختلف عنهم، إلا أنني كنت مُصِرًّا على ملاحقتهم، كانوا أربعة نفر جميعهم على وتيرة واحدة في التعامل، كانوا يتفحصون كل شيء ويقلبون كل شيء محاولة منهم لفهم كل شيء في ذلك المكان الذين يزورونه لأول مرة كما أرى من طريقة تفحصهم لكل شاردة وواردة دون أن يتكلموا أو يتناقشوا حول أي شيء، بعد أن أرهقوني ولم يُصَبْ أي منهم بالإرهاق جلست غير بعيد أراقبهم وأفكر، ماذا أفعل؟ هل أبلغ السلطات؟ هل أقتل أحدهم ليكون إثبات لما سأرويه؟ هل أذهب وأسرق مركبتهم لأمنعهم من الفرار؟ لكنني لا أعرف كيف أقودها، فكرت وكم هو مريض تفكيرنا البشري، عيناي تتابعهم ودماغي مركز عمليات يخطط ماذا يمكن أن أفعل، قلت لنفسي لأراقب وأرَ، وعند حدوث أي شيء سأتصرف، بعد أن ارتحت قليلاً مشيت إلى مكانهم فوجدتهم يتفحصون الصخور والأحجار، الحيوانات والأشجار، كل شيء بالنسبة لهم غريب، شدني عملهم كفريق يعملون بكل راحة مع بعضهم البعض والكل يعمل ما يجب عليه أن يعمله..
يعملون ويعملون بصمت تام دون حرف أو كلمة أو أي كلام، يتفحصون بأعينهم الكبيرة كل شيء، وبعد الانتهاء من الفحص يتركون الشيء في مكانه دون أن يؤذوه، انتظرت أن يخرج بعضهم أسلحة الليزر الفضائية ويقتلون الحيوانات أو يشلون حركتها أو يرفعونها من الأرض أو يغيرون من حجمها كما عبأت عقولنا تلك الأفلام، لم يحدث شيء من هذا نهائياً.
أحداث تتلاحق وقصص تحدث أمامي وأنا أشاهد فقط إلى أن سمعت صوتاً بجانبي يقول: قم، أنت يا رجل.. قم الله يهديك! فتحت عيني لأجد زوجتي توقظني لصلاة الفجر، توجهت للمسجد، صليت الفجر في جماعة ولم يفارقني ما شاهدته في ذلك المنام، تلك الكائنات التي لا تملك فماً ولا أذناً وتكتفي بالعين، قررت أن أتقمص دور كائن منهم فأنا أجيد التقمص، وقلت لنفسي: لا فم ولا أذن، اليوم هو يوم المشاهدة فقط، سددت أذني بقطعة من القطن بعد أن أخذت عهداً على نفسي ألا أخاطب اليوم إنسيًّا مهما حدث، كنت أراقب الناس وهم ينتشرون في الأرض ويبدأون يومهم بعد انتهاء الصلاة، بدأ البعض في روتين حياته اليومية، شتائم، ألفاظ لا تليق، تصرفات رعناء، كذب، غش، وخداع.. حلف وكلام وصراخ، والبعض يفعلون العكس، ذهبت إلى عملي لأجد أن الجميع يتكلمون، من لا يتكلم يسأل ليتكلم، من لا يسأل يستمع ليسأل، لا أحد يرى شيئاً، لا أحد يرى أن ذلك مكان للعمل، وأن الكلام ليس هنا وليس الآن إلا لو كان خاصاً بالعمل وكم هم قليلون من يتحدثون عن العمل أو فيه، يلقون عليَّ بالتحية فأشير بيدي ملوحاً لأنني قررت أن ألتزم الصمت، يسألونني مالك؟ أنت كويس؟ اتكلم! لا إله إلا الله! أنت صاير معك شيء؟ يا بني آدم اتكلم، خير؟!
سمعت هذه الجمل أكثر من مائة مرة وفي كل مرة أشير متحججاً بأن حلقي يؤلمني وحبالي الصوتية مرهقة، وأنني فقدت النطق مؤقتاً، أنهيت يومي بعد أن أنهيت عملي المطلوب مني على أكمل وجه كما أظن، وإن كان بعض الظن إثماً، وجدت أنني أنجزت عمل يومين في يوم واحد، نعم أنجزت عمل لم أنجزه من قبل؟ لم أستطع أن أرد أحداً أو أن أقول له عدي علينا أو راجعنا بكرة.
ذهبت إلى المنزل، استقبلتني زوجتي وهي مبتسمة فابتسمت وربت على رأسها فزادت ابتسامتها وتعجبت مني ومن تصرفي، لم أسألها السؤال المعتاد: هاه طابخين إيه اليوم؟ وليش عاملة في نفسك كدا وكأنك أبلة نظيرة، جهزي الغداء أنا تعبان وقرفان من الشغل، لم تسمع هذه الأسطوانة المشروخة التي سمعتها كثيراً، بعد قليل أتت لتقول لي إن الطعام جاهز، ابتسمت ولم أتكلم كنت أراقبها وهي تأكل وهي أول مرة أفعل ذلك، فمن عادتي أن آكل ولا أنتبه إلا لنفسي وهذه عادة من عادات معظم الرجال، تنظر إليَّ متعجبة خائفة من سؤالي، لسان حالها يقول: الله يستر الظاهر إنه وراه مصيبة اليوم طالما ما بيتكلم وبيبتسم بس أكيد مسوي عملة سوداء الله يستر، كنت أراقبها وأبتسم ومع كل ابتسامة تتوتر، تأملت كل شيء تلك النعمة التي بين يديَّ وكل ما هو حولي، وكأنني أشاهد منزلي لأول مرة، أنهيت غدائي ومسحت على رأسها في إشارة مني عن امتناني لها وشكري، صرخت وقالت: أنت بتمسح في رأسي غسل إيدك الأول، ابتسمت لأنني لم أكن أسمع ما تقول ولكني كنت أقرأ تعابير الوجه وحركات الجسد ولعلي أذكركم بأن في أذني قطناً، جلست لأتناول الشاي وهي بجواري تنظر إليَّ محاولة منها لقراءة معالمي وحركاتي فالمرأة أقدر على قراءة الرجل وهو بالنسبة إليها كتاب مفتوح غالباً، الريموت كنترول في يدي أقلب به القنوات دون أن أتفرج على شيء محدد كل شيء فيه يتكلم، لا توجد لغة الصمت فيه، في الحروب نتكلم ونهدد ونتوعد، في السلم نتكلم ونتكلم، نتكلم في كل شيء، وما أكثر ما نتكلم، في كل مجالات الحياة نتكلم ونتكلم.
بعد انقضاء يومي أزحت القطن من أذني وبدأت أعود لطبيعتي البشرية وزوجتي تنظر إلي وكأنني كائن فضائي فقلت لها ولنفسي: ألا تعتقدين أننا نعيش في عالم مليء بالكلام أما العمل فقليل؟ نحن نتكلم عن كل شيء وفي كل شيء لا نكلُّ ولا نملُّ، لساننا يعمل ويعمل ويعمل ولعله الجزء الأكثر استخداماً لدينا، من منا فكر للحظات أن الكلام سبب كل ما نحن فيه من سوء؟ كم منا سكت وتأمل ورأى صوراً غير الصور؟ كم منا مارس عبادة التأمل؟ وكم منا تجاوز عن الأخطاء بالسكوت؟ وكم منا اكتفى بالمشاهدة؟ وكم وكم؟ أجيبوا إن استطعتم، وكأننا خلقنا من أجل الكلام، يكفي كلام لقد أوجعتم دماغنا ولنا الحق في أن نقول كفاية.. والله حرام.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.