طلاق الغضبان لا يقع!

وإن كان الغضبان يتكلم بما لا يريده، ولا يريد مضمونه، فهو بمنزلة المُكرَه، الذي يُلجأ إلى الكلام، أو يتكلم به باختياره، ولا يريد مضمونه). يرى ابن القيم هنا أن الغضب يأخذ نفس حالة الإكراه، والإكراه في الإسلام لا يقام به فعل، ولا يقع به تصرف، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه".

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/27 الساعة 03:47 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/27 الساعة 03:47 بتوقيت غرينتش

لا تخلو الحياة الزوجية من منغصات ومشكلات، وفي بعض الأحيان يحتد النقاش بين الزوجين، وربما وصل إلى درجة من درجات الغضب، وفي كثير من حالات الطلاق عند سؤال الزوجين عما حدث، تسمع منهما التالي: أن حوارا دار بينهما، فغضب الزوجان، فقالت الزوجة مثلا: لو كنت رجلا طلقني، فيغضب لمثل هذه الكلمة، فيقول: أنت طالق، وتحت مواقف من الغضب تخرج كلمات الطلاق، والمتأمل في الطلاق في بلادنا العربية والإسلامية، سيجد معظم حالات الطلاق، سببها موقف غضب فيه الزوج فقال كلمة الطلاق، فهل يقع الطلاق في مثل هذه الحالات الغاضبة؟!
والإسلام في نظرته للإنسان عند الغضب، أنه يراعي حالته، لأن الغضب يخرجه عن طبيعته الأصلية، وعن اتزانه في قراراته، فلم يذكر الغضب إلا مذموما في القرآن والسنة، وفي كثير من أحكام الإسلام يضع الغضب كحالة من حالات رفع الحرج عن الإنسان، والتخفيف عنه. ولذا اختلف فقهاء الإسلام حول طلاق الغضبان، هل يقع طلاقه على امرأته، أم لا؟ وما الحالات التي لا يقع فيها عند غضبه؟ وهل يشترط أن يكون غضبه شديدا حتى لا يقع؟
وما نقول به في حالة الغضب، سواء كان غضبا شديدا، أو غضبا يندم عليه الإنسان بعد هدوئه، ففي هذه الحالة لا يقع الطلاق مطلقا، لأدلة معتبرة في القرآن الكريم والسنة النبوية.
فمن القرآن قوله تعالى: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون) يونس: 11، فالآية هنا تبين أن الإنسان وقت الغضب يتعجل الشر، فربما يدعو الإنسان على ابنه، أو على نفسه بالشر، فلو أجاب الله دعاء الناس وقت غضبهم، لهلك الإنسان، ولهلكت الدنيا جميعا، فكما أن الدعاء لا يؤاخذ الله به الناس عند الغضب، فالطلاق كذلك لا يقع عند الغضب.
ومن الأدلة القوية في عدم وقوع الطلاق عند الغضب، قوله تعالى: (وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم) البقرة: 227. فالطلاق يحتاج إلى عزم الزوجين عليه، وليس مجرد خاطر يمر بهما، أو لحظة عابرة في وقت نقاش حاد، والمتأمل لكملة (عزموا)، والعزم يأتي بعد تفكير طويل، وتأني شديد، وليس وليد لحظة غاضبة، ولو تتبعنا كلمة (عزم)، في القرآن واللغة لوجدناها تدل على الصبر الشديد، ومن ذلك أننا نسمي الرسل الصابرين: أولي العزم من الرسل.
ويقول تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبتم قلوبكم) البقرة: 225، قال ابن عباس: لغو اليمين، أن تحلف وأنت غضبان. ويقول ابن القيم: (جعل الله سبب المؤاخذة كسب القلب، وكسبه هو إرادته وقصده، ومن جرى على لسانه الكلام من غير قصد واختيار، بل لشدة غضب، وسُكْر أو غير ذلك، لم يكن من كسب قلبه).
ومن الأحاديث التي تبين أن طلاق الغضبان لا يقع، قوله صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق، ولا عتاق، في إغلاق"، وفسر كثير من العلماء الإغلاق بالغضب.
ويقول صلى الله عليه وسلم: "لا يقضين حَكَمٌ بين اثنين وهو غضبان"، فالحديث هنا يبين أن الغضب يؤثر في حكم وقرار القاضي، فنهى عن الحكم في حالة الغضب، حيث إن حكمه وقتها غير معتبر، ولا يعتد به، وإذا طبقنا هذا الكلام في القضاء في مجال المال وغيره، فالأولى تطبيقه في مجال الطلاق.
ويقول صلى الله عليه وسلم عن غضبه: "اللهم أيُّما عبد مؤمن سببته، فاجعل ذلك قربة إليك يوم القيامة"، وفي رواية: إنما أنا بشر، أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما مؤمن سببتُه، أو لعنته، فاجعلها له زكاة"، يقول الإمام ابن القيم: هذا وهو صلى الله عليه وسلم معصوم الغضب، كما هو معصوم الرضا، وهو مالك لفظه بتصرفه، فكيف بمن لم يعصم في غضبه، وتمليكه، ويتصرف فيه غضبُه، ويتلاعب الشيطان به فيه؟!
وإن كان الغضبان يتكلم بما لا يريده، ولا يريد مضمونه، فهو بمنزلة المُكرَه، الذي يُلجأ إلى الكلام، أو يتكلم به باختياره، ولا يريد مضمونه). يرى ابن القيم هنا أن الغضب يأخذ نفس حالة الإكراه، والإكراه في الإسلام لا يقام به فعل، ولا يقع به تصرف، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه".
وقال ابن عباس رضي الله عنه: (الطلاق عن وَطَر)، قال ابن القيم: عن وطر: أي عن غرض من المُطَلِّق في وقوعه. والطلاق في الغضب ليس عن رغبة فيه، بدليل ندم الرجل بعده.
خلاصة القول: أن كل طلاق عند الغضب لا يقع، إلا ما نطق به صاحبه وقت غضب لم يفقد صوابه فيه، ولم يندم بعده، وبعد هدوئه وترويه أصر على الطلاق، أما عند الغضب الشديد، أو الغضب الذي لا يفقد فيه صوابه كلية، لكنه يندم عليه بعد هدوئه، فهذا طلاق لا يقع على الراجح من الأقوال، بحسب الأدلة المفصلة التي ذكرناها.
مراجع يمكن الرجوع إليها للاستزادة في الموضوع:
إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان لابن القيم.
زاد المعاد لابن القيم (5/196،195).
المفصل في أحكام المرأة والأسرة لعبد الكريم زيدان (8/385،384).

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد