كبشر، نحن نركض خلف أحلامنا ولا نبالي، ولكن خلال هذه الرحلة هناك الكثير من الحقائق التي تنكشف على طول الطريق تصدم بقوة، قد نتفاجأ أنه ليس هذا الطريق الذي أردت وليس ذاك الحلم الذي حلمت، فتشعر أنك مُقيد على طريق تراصت على جانبيه الأحلام عاجزة، والعقول مأسورة.
ربما ما أقوم بكتابته غير متناسق بالقدر الكافي، ولكني أمتنُّ لتلك الحالة الصادقة التي تنتابني عند كتابة شيء نابع من أعماق الروح، إنني أؤمن بالأحلام، أؤمن بقدرة الخيال البشري وتفردة، أؤمن بجنون الأفكار والمهووسين بها، أؤمن أنه لو لم يحلِّق ابن فرناس لما وجدت جوازات السفر والحدود ولما شاهدنا السحاب بهذا القُرب، أؤمن أنه رغم كم السخرية التي قد يتعرض لها المرء وما قد يُنعت به من فقدان العقل والجنون لفكرة آمن بها "وحده"، وحارب لأجلها "وحده"..
إن تلك الأفكار الخارجة عن المنطق البشري و"غير العقلانية" كانت وما زالت سبباً لما وصل وما قد يصل له البشر الآن وفيما بعد، الأمر حقًّا يستحق التأمُّل، إن الأحلام تصبح حقيقة إذا كان إيماننا بها كاملاً وحقيقيًّا.
لكن بكل أسف.. هذا في عالم يحترم الكيان الإنساني، ويُقدّر قيمة النفس البشرية.. لأننا هنا على هذه الأرض نحكم على الأشياء من الوهلة الأولى، نتخذ قرار المحبة والكُرة من اللقاء الأول، نقيم الحكم على الكتاب من عنوانه وعلى الإنسان من اسمه وعلى الصامت كالمُتكلم! أتعرف لمَ؟ لأننا ببساطة نستمتع بالحُكم على الأشياء، إنه يمس شيئاً من التعالي في دواخلنا وكأن نزع الشرف عن أحدهم يزيد مساحتنا كرامة.
صحيح أن "فيمنست بيل" كان صادقاً حين قال إن معظمنا يفضل أن يُدمره المديح على أن ينقذه الانتقاد، لكني ما زلت أرى أن أروع ما قد يقوم به المرء في عالمنا أن يُطلق العنان لروحه، أن يتحدى هوّس التصنيف وإطلاق الأحكام وجنون الطعن في العرض والذمة والعقيدة، فالمثقف الذي لا يترجم فكره إلى فعل عند نقد الخصوم له لا يستحق لقب المثقف، بل الذي يمارس فن التجاهل مع من هم أهلُ لذلك، الذي يدرك أن للخصومة شرفاً، وأن الكريم من لزم الأدب وأعرض عن عرض خصمه، وحافظ على معركته الحقيقية.. وترّفع، فما أسهل نقد الخصوم والفوز بالتصفيق، وما أصعب إصلاح الصفوف..
فالواقع، ما أمنت به مؤخراً انه قلما يجد المرء منا النقد الهادف، ما يهدف لتصحيح المسار والنصح والإرشاد حقاً، ذلك الحديث الصادق اتضح انه مجرد مفهوم مع وقف التنفيذ بين قلوب البشر علي الأرجح، فبعض النقاد يكون نقدهم عبّث يبثوا في داخل المرء شعوراً غير شعوره بنفسه.
فقط الإنتقاد واطلاق الأحكام هو العدوى السارية في أوطاننا وشوارعنا ومجتمعاتنا بأحجامها وآلوانها مُتخذاً من الهجوم والتصّيُد للأخطاء سيف على عُنق الإنسانية، بل وربما يتم المبالغة فيه ظناً من المهاجم انه احتكر الصواب والحق والفضيلة.
وخطورة هذا الموقف وأشباهه تكمُن أن يتحكم الأخرون بمحتواك الذهني والنفسي والفكري فتفقد نفسك من حيث لا تشعر، فتكتب ما يريدون، وتتحدث بما يحبون، فتخون نفسك، وتصبح مسخاً لا يعرف طريقاً للإبداع بكُل صوره.
ولو تمعنَّا في واقعنا، لأدركنا أننا نعيش حالة من التشوهات الفكرية، حيث يحل الصوت الشاذ محل الصوت العاقل، والسطحية محل العمق وتتحول قطاعات ضخمة من الناس من الاتزان إلى الهياج فتضيع العقلانية وتُتهم أي محاولة للتعقل بأنها انحراف أو خيانة للمبادئ، وتتم المتاجرة على أساس العواطف والمشاعر بين الخصوم المتنازعين.
أليس من الإنسانية أن نعامل الأنفُس بالرِفق ونخاطبها بالرحمه واللين؟ حين نتناقش مع الآخر وتكون الغلبة لحجتنا، حين نتمكن من اقتحام آرائه تماماً، أليس علينا أن ندع له طريقاً يعود منه إلى الحق، دون أن يفقد ماء وجهه؟
أليس علينا أن نتسم بالفهم المتزن العميق لرسالتنا في الحياة برغم كل ما بداخلنا من صدمات الواقع المتتابعة، ومشاعرنا المضطربة المشحونة بمزيج الأمل واليأس، وبيئتنا النفسية وما أصابها من صلاح وخلل بحيث يجعلنا أكثر قدرة على قراءة الواقع بغض النظر عن أثره علينا، وموقفنا من أطرافه وبغض النظر عن مشاعرنا نحوهم مما يجعل قدرتنا على استبيان الطريق نحو الأهداف أفضل وأكثر عدالة وإنسانية، أليس علينا أن ندرك أن التوازن النفسي هو أن نأخذ الأسباب بقوة والناس بما يستحقونه من لين أو شدة وألا نساوي أو نخلط بين كل هذا حتى لا نكون مجرد آلة تنتج مواقف متشابهة؟
صديقي.. بكل الود، قبل أن تمضي في أحكامك وترتب عليها الأثر، احترم نوايا المنقود وحاسبه على الظاهر، وتذكر أن مَنْ بالغ في الخصومةِ أثِم، وألَّا تبخث الناس أشياءهم، وأن من كسر مؤمناً عليه جبره، فالفوز الحقيقي هو أن تقيم قضية عادلة بزمن ضاعت فية الفضيلة، لا أن تفوز بمعركة وتخسر رسالة بأكملها.
ولأني أؤمن أنه لا يمكن أن رؤية الأشياء بوضوح إلا من خلال القلب، اتّخذ من هذا العضو الصغير بوصلة وبصيرة صادقة، وحافظ على المسافة التي تحفظ لكل فرد مجاله الخاص وكينونته الخاصة كإنسان مستقل له الحق في أن يطوي ضلوعه على شيء.
لا تنتقد شخصاً انتقد فعلاً، وخاطب الناس على قدر عقولهم، ولا تكُن لاقطاً للعثرات والسقطات؛ لأن كل إنسان يحب ذاته فلا تحطمها بتعنيفك، وتعامل مع أسوأ الأمور بأنها ستمضي حتماً ويبقى منها الأثر، ولا تنتظر أن يقابلك الآخر بنفس أخلاقك فالسماء لن تُمطر أحلامك والأرض لن تُخرجها من أحشائها؛ لأنه حينها أحلامك ستكون هزيلة غير مستحقة!
عليك أن تتفهم أن طريق الأماني والأحلام مليء بالعثرات والهجوم والأقنعة، وأنك ستقابل أنماطاً من البشر لا تعرف سوى الهجوم وسيلة، وأن تدرك أنك ربما لست المقصود دائماً، وربما أنت لست على صواب، لكنك تدرك تماماً كيف تقدم أفضل ما لديك لتصحيح أخطائك وتثابر لأن تكون الأفضل، أن تتعلم أن تفعل ما يتوجب عليك فعله وليس ما تراه صحيحاً، أن تدخل تلك المعارك بهدوء وأن تخرج منها بطلاً يبحث عن النصر لا منكسراً ممتن للبقاء على قيد الحياة.
الهجوم الشرس والنقد اللاذع كلها قد تكون أدوات للتزيف وللفت الانتباه عن الحقيقة التي يجب أن نراها حتى ولو بعيون يائسة حتى لو ظننا أنفسنا تجردنا من معانيها.
"إن كل جيش منهزم لا بد أن تبقى ثلة شجاعة من خلفه كي تمنع ذبح الفلول المتقهقرة، هذه الثلة هي وقود الجولات التالية لكي تصلح المسار وتعطي طاقة حقيقية لنصر جديد فأكبر نكاية تصيب بها أعداءك أن لا تمنحهم فرصة اغتيال الفرحة منك".
بالنهاية عليك أن تمتنى لحالة "اللاشعور" التي قد تصيبك في أحلك المواقف وأشدها سوءاً أثناء سيرك، وحاول عدم الانزلاق في المعارك الصغيرة حتى لا تستنفذ طاقتك فيما لا يفيد، نعم! ربما لديك ما يقال فوق التوقع، وما يصل بهم حد الذهول لكن لا يجدر بك تعليق اللافتات.
وتذكر أن أفضل الأشياء هي التي لا نختارها، بل التي تختارنا بين زمام القدر، بل ربما أفضل الطرق هي التي لم تبحث عنها يوماً.
"هل يرزق كل منا العلم الفهم الصحة المال الحب الجمال؟ قد يعيش الإنسان طيلة عمره جاهلاً وإن طلب العلم أحياناً، أو عنده علة ما وإن أخذ كل سبيلاً لمداواتها، أو فقيرا وإن تلمس سبل الغنى! وكذا أصحاب القلوب الفقيرة قد يعيش المرء منهم ويعمر ولا يرزق بوصل أبداً حتى يقول قائلهم: إذا مِت ظمآناً.. فلا نزلَ القطرُ".
يا صديقي، "ليس شرطاً أن نجد تفسيراً لكل مشاعرنا أو اضطرابتنا النفسية، ولكن المهم أن نحاول تجاوزها وتقويمها، ومن الجيد ألا نتخذ من أنفسنا مقياساً للحكم على الناس والنظر إليهم وتقييم أوضاعهم.
إن كل إنسان يعيش من أجل قيمة معينة تمثل له الحافز للحياة مهما كانت هذه القيمة تافهة أو عظيمة، الكل يتألم من أجل قيمه مع اختلاف نوع الألم وعمقه، وإن أفضل الحكمة هي معرفة من تكون، وإنك لن تصل إليها إلا بعد معرفة أنواع البشر وأحوالهم وتدرك أنك لست حالة خاصة مختلفة عنهم".
كن من أنت وامضِ ولا تبكِ على العمر المسكوب، وقُل.. نعم! لم أرتدِ ثياب الوعظ، أنا مثلك "متُعثِّر" راغب في الخير ومُقصر عنه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.