قبل عدة سنوات أتحفنا أحمد الشقيري بموسم كامل من برنامجه خواطر عما أسماه البعض وقتها بـ"كوكب اليابان". كان المُشاهد العربي يشعر بمزيج من الإعجاب والأسى بعد انتهاء كل حلقة؛ الإعجاب والانبهار بالتقدم الياباني في المجالات العلمية والتقنية، وكذلك برقي التعاملات الإنسانية، والأسى والحسرة على مستوى الإنجازات العلمية المتدني في الوطن العربي رغم وجود الكثير من العقول العربية المبدعة.
وحتى الآن، عند مناقشة قدرتنا على مجاراة الإبداع العلمي وضرب مثال اليابان في أية مناسبة، تسمع هذه المقولة تتردد كثيراً "يا عمي في اليابان!" مو عندنا".
يعتقد الكثيرون أن سر التميز الياباني يكمن فقط في جيناتهم، فهم عباقرة ومبدعون بطبيعة الحال؛ ولهذا السبب تتمركز اليابان في مصاف الدول المتقدمة.
لكن ما السر حقًّا وراء إبداعاتهم المتواصلة؟
أن تولد يابانيًّا يعني أنك أسلمت منذ لحظة الولادة حياتك كاملة من أجل بلدك اليابان، وأنك تقدم راغباً اليابان على نفسك في أي لحظة ودون أدني تردد. ففي صغرك تتعلم في المنزل وفي المدرسة أنك جزءٌ لا يتجزأ من المجتمع، وعليه فأي تصرف تقوم به ستنعكس آثاره على من حولك؛ فتلتزم آداب الحوار -حتى لو كنت غاضباً- وتقوم بالاعتذار -دون أي شعور بالمهانة- عندما بتطلب الأمر ذلك، وتعتبر كل شبر في وطنك بيتك فلا تلقي القمامة فحسب بل تقوم بتنظيفه طواعية وبابتسامة حب ورضا.
وعندما تصبح على مقاعد الدراسة الجامعية، تتعلم الاستقلالية وتبدأ العمل بدوام جزئي -حتى لو كان وضعك المالي جيداً- فلا يُعقل أن تستمر بأنانية بتكليف والديك عناء الاعتناء بك. ولا يمنعك هذا من أن تبذل قصارى جهدك في دراستك، حتى لو تطلب الأمر أن تنام فقط لبضع ساعات يوميًّا وعلى مدى سنوات! وعندما تكون -لديك هواية، تأخذها على محمل الجدية وتواظب على تطويرها لعدة سنوات، ولأنك تعلمت أنه كلما تعمقت أكثر في علمك، زادت نسبة الأمور التي تجهلها فإنك ترد بتواضع عندما يسألك أحدهم عن مدى إتقانك بـ"ما زلتُ في أول الطريق".
وقبيل تخرجك بسنة واحدة، تحدد -بعد تفكير عميق- مسارك المهني، هل ترغب بإكمال دراساتك العليا أم ستبدأ بالعمل؟
وعندما تختار أحدهما يكون عن قناعة ورغبة. فإذا اخترت أن تكمل الدراسة، تستعد للتخلي عن عُطَل نهاية الأسبوع
وقضاء ساعات طويلة في المختبر لإجراء تجاربك العلمية. أما إذا اخترت أن تعمل، فإنك على موعد مع ساعات دوام متأخرة قد تتطلب منك المبيت في مقر الشركة. وفي كلتا الحالتين تقوم بعملك على أتم وجه وبمواظبة ومثابرة لامتناهيتين، كيف لا وأنت تقوم بكل ذلك من أجل وطنك اليابان؟!
أن تكون يابانيًّا يعني أن تضع مصلحة اليابان صوب عينيك قبيل أي خطوة تخطوها، فإذا ذهبت للدراسة خارجاً أو حتى في رحلة سياحية ترفيهية تعتبر نفسك ممثلاً لليابان وسفيراً لثقافتها، فتحرص على تقديم أفضل صورة.
وتعيش هذه الرؤية فيك في تعاملاتك مع أفراد مجتمعك، فتتنافس معهم -وتتعاونون سويًّا- على من ينجز أكثر من أجل رفع مكانة اليابان، وتفرحون وتفخرون بنجاح وإنجازات أي منكم. فكل ذلك يصب أولاً وأخيراً في مصلحة اليابان.
وكياباني تؤمن بأهمية الوقت والغوض في أعماق المعرفة، فتستمر بالعطاء وتطوير الذات حتى آخر نَفَس، فترى في تقاعدك فرصة ذهبية لتعلم لغة جديدة أو حتى البدء بالتطوع لخدمة مجتمعك بطريقة مختلفة.
أن تكون يابانيًّا لا يعني أنك خارق أو مثالي أو منزَّه عن الخطأ -وهذا ما قد يتصوره بعض القراء- بل يعني أنك تؤمن بتواضع أن لوجودك وعملك دوراً في تطور بلدك، وأنك كفرد تشكل علامة فارقة في مجتمعك!
لم تنهض اليابان بسبب عبقرية شعبها، إنما بسبب الأمانة والمثابرة المتأصلتين في أفرادها منذ الصغر حتى الكبر، هاتان الصفتان اللتان يُكافؤون عليهما بتقدم بلدهم، بدل وصفهم بالبلهاء أو طمسهم كما يحدث للأسف في مجتمعاتنا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.